ثم ذكر سبحانه من بعد ذلك أدلة الوحدانية وأن الله تعالى هو المعبود وحده فقال عز من قائل:
{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( 60 )} .
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة{ اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ، بالاستفهام ، وهو نفي للمعادلة ، وفي هذه الآية يوضح بطلان الموازنة بين خالق السموات والأرض ، والموازن معه محذوف مع تقديره في القول ، وحذف استهانة به مع ذكر مدلوله في الجملة ، والمقصود الأول التعريف بالذات العلية جل جلاله ، والمعنى أمّن خلق السموات والأرض ، وأنزل لكم من السماء ماء خير أما تشركون ، وذكرت النتيجة أءله مع الله .
وأم في قوله أمن خلق السموات منقطعة ، فهي للإضراب الانتقالي ، وهو يدل على التوبيخ والتبكيت ، وفي قوله أم ما تشركون قراءة بالتاء وتكون للخطاب ، وقراءة بالياء وتكون للغائب ، والمعنى ظاهر في القراءتين ، وهو آية أمن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء . . . كأنها تكون تبكيتا صريحا ، بعد أن كان في الآية السابقة تبكيتا ضمنا ، وتصريح بسبب العبادة وموجب الإذعان والخضوع ، ومن مبتدأ ، والإضراب الانتقالي فيه معنى الاستفهام ، والمعنى ننتقل إلى أمر واضح:أمّن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء ، خير أم ما تعبدونهم . وجاء بجملة تحل نفس المساواة في المعادلة فقال أءله مع الله .
وقال سبحانه:خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء ، فيه تعميم لبيان أن خالق الوجود كله:السموات والأرض وما فيها ، ثم تخصيص النعم القريبة بالذكر ، وهي التقاء السماء بما فيها والأرض بما فيها من خير للإنسان والحيوان . وتكلم عنها بالغيبة ، لأن الإخبار ، والإعلام به ، وهو واضح بين ؛ لأن الخلق ، وإنزال الماء إلى الأرض ، وهو من التزاوج بين السماء والأرض ، ولكن عند نبات الزرع والشجر ، كان إسناد الإنبات إليه سبحانه ، لكيلا يظن أحد أن ذلك الإنبات من الأخذ بالأسباب والمسببات ، وأنه فعل طبائع الأشياء ، وبين الله تعالى أن ذلك الإنبات منه ، وهو فرق الأسباب والمسببات ، سبحانه بديع السموات والأرض ، والخالق لكل شيء على غير مثال سبق ، وقال بعد ذلك سبحانه:أءله مع الله ، أي يتساوى الخالق والمخلوق بل أدنى مخلوق ، والله خير من أوثانهم ، ودل على عدم التساوي بتوبيخهم على أن يجعلوا مع الله إلها آخر ، مع هذا التفارق ، وأنه لا يكون المخلوق كالخالق أبدا ، ثم قال تعالى:{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي يعدلون عن حكم العقل ، وحكم المنطق ، والطريق المستقيم ، وكان التعبير بالمضارع لتصوير عدولهم عن الحق إلى الباطل ، ومن العقل إلى الهوى ، ألا ساء ما يقولون ، وما يفعلون .
وقوله بالنسبة لإنبات الحدائق فيه إشارتان بيانيتان .
الأولى:أنه عبر بالإنبات للأشجار مع أنه في آيات أخريات كان يضيف الإنبات إلى الزرع ويعبر عن خلق الأشجار ، بقوله تعالى:{ فالق الحب والنوى ( 95 )} [ الأنعام] ، وذكر الإنبات هنا بالنسبة للحدائق ذات الأشجار الوارفة الظلال ، لبيان عظيم قدرته في أنه ينبت هذه الدوحات والأشجار العظام ، ويتعهد من حال النبات ، حتي يصير فيحاء ذات بهجة وزينة ، ويسر الناظرين مرآها ، ويسر الناظرين ثمرها اليانع ، وقطوفها الدانية .
الثانية:هي قوله تعالى:{ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا} كان هي كان الناقصة ، ونفيها معناها نفي الكينونة ، أي ليس في وجود ولا كيان ، أن لكم ، أي في قدرتهم ، أن تنبتوا شجرها ، إنما ينبتها العزيز الرحيم ، والخلاق العظيم .