ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره ، فقال:( أمن خلق السموات والأرض ) أي:تلك السموات بارتفاعها وصفائها ، وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة ، والأرض باستفالها وكثافتها ، وما جعل فيها من الجبال والأوعار والسهول ، والفيافي والقفار ، والأشجار والزروع ، والثمار والبحور والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك .
وقوله:( وأنزل لكم من السماء ماء ) أي:جعله رزقا للعباد ، ( فأنبتنا به حدائق ) أي:بساتين ( ذات بهجة ) أي:منظر حسن وشكل بهي ، ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) أي:لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها ، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق ، المستقل بذلك المتفرد به ، دون ما سواه من الأصنام والأنداد ، كما يعترف به هؤلاء المشركون ، كما قال تعالى في الآية الأخرى:( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ الزخرف:87] ، ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ) [ العنكبوت:63] أي:هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له ، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة من هو المتفرد بالخلق والرزق ; ولهذا قال:( أإله مع الله ) أي:أإله مع الله يعبد . وقد تبين لكم ، ولكل ذي لب مما يعرفون به أيضا أنه الخالق الرازق .
ومن المفسرين من يقول:معنى قوله:( أإله مع الله ) [ أي:أإله مع الله] فعل هذا . وهو يرجع إلى معنى الأول ; لأن تقدير الجواب أنهم يقولون:ليس ثم أحد فعل هذا معه ، بل هو المتفرد به . فيقال:فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والتدبير ؟ كما قال:( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) [ النحل:17] .
وقوله هاهنا:( أمن خلق السموات والأرض ):( أمن ) في هذه الآيات [ كلها] تقديره:أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها ؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر ; لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك ، وقد قال:( آلله خير أما يشركون ) .
ثم قال في آخر الآية:( بل هم قوم يعدلون ) أي:يجعلون لله عدلا ونظيرا . وهكذا قال تعالى:( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر:9] أي:أمن هو هكذا كمن ليس كذلك ؟ ولهذا قال:( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) [ الزمر:9] ، ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ) [ الزمر:22] وقال ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) [ الرعد:33] أي:أمن هو شهيد على أفعال الخلق ، حركاتهم وسكناتهم ، يعلم الغيب جليله وحقيره ، كمن هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها ؟ ولهذا قال:( وجعلوا لله شركاء قل سموهم ) [ الرعد:33] ، وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها .