{ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار13}
{ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين}هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر ، فالفئتان المشار إليهما في الآية:ا لمسلمون ، والمشركون . والمسلمون الفئة التي تقاتل في سبيل الله ، أي في سبيل إعلاء كلمة وطلبا لمرضاته ، والأخرى الكافرة:المشركون .والمعنى على هذا ان الله سبحانه إذ ينذر الكافرين بأنهم سيغلبون في الدنيا ، ينذرهم بما قامت عليه البينات ،وظهرت به الأمارات ؛وذلك لأن لهم آية أي أمارة ودلالة تدل على صدق ما يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم من انهم سيغلبون ،وتلك الآية الدالة على صدق ذلك التهديد والإنذار الشديد هي في حال الطائفتين اللتين التقتا في حرب قوية ،إذ انتصرت الفئة التي تقاتل في سبيل الله وهي القلة ،على الفئة الكافرة وهي الكثرة ،ومع ان أولئك الذين يقاتلون في سبيل الله كانوا يعلمون ان أولئك أكثر عددا ،وأكثر عدة .
ونريد ان نبحث هنا في بعض ألفاظ التي لها إشارات بيانية:
فقوله تعالى عن الفئة الكافرة:{ وأخرى كافرة}فيه إشارة إلى بعد ما بين الفريقين من حيث الغاية من القتال ؛ففيه إشارة على تقدم الأولى معنويا ،وتأخر الثانية ؛فالأولى تقاتل لا لعرض من أعراض الدنيا ،ولا لغاية مادية مبتغاة ،بل للحق ،وفي سبيل الحق ،ومرضاة للحق جل جلاله ؛والأخرى تكفر بكل هده المعنويات فتقاتل في الباطل وللباطل ولنصرة المادة ،ولأعراض الدنيا ؛وفرق ما بين الفئتين عظيم ؛فإن كانت الأولى فقيرة في المال قليلة في العدد ،فهي قوية بالمقصد والغاية ،والثانية على نقيض ذلك تماما ،فهي كثيرة المال وكثيرة العدد ،ولكنها فقيرة في الإيمان .
وقوله تعالى:{ يرونهم رأي العين}فيه بيان ان المؤمنين يرون المشركين{ مثليهم}أي أكثر منهم مرتين ،فالمثل معناه المساوى ،والمثلان لأمر ضعفه ،والمعنى على هذا ان المؤمنين الذين أعطاهم الله ذخيرة من الإيمان واليقين وطلب الحق يرون أعداءهم رأي العين لا بالوهم والخيال ضعفهم ، ومع ذلك لم يجنبوا ولم يضعفوا .فالتعبير بقوله:{ رأي العين}تأكيد الرؤية بأنها رؤية بصرية ،لا رؤية تقديرية ؛فهم يعاينون معاينة لا لبس فيها ولا غموض انهم ضعفهم .فالذين يعتزون بالكثرة عليهم ان يعرفوا أي الفريقين غلب ،والذين يعتزون بالمادة عليهم ان يعرفوا لمن كانت النصرة:أهي للمادة ام للروح والإيمان ؟ فالذين رأوا خصومهم مثليهم هم المؤمنون .وهذا ترجيح ابن جرير الطبري .وقد رجح الزمخشري ان الذين رأوا:هم المشركون ،قد رأوا المؤمنين مثليهم .وإن الأول في نظرنا أولى ؛لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا فعلا أقل عددا من المشركين ،وأقل عدة ،ولأن التعبير بقوله تعالى{ رأي العين}يفيد ان رؤية هذه الكثرة كانت بصرية بالمعاينة ،لا بالتقدير او التخيل او التوهم ،ولا يمكن ان يتحقق ذلك في رؤية المشركين للمؤمنين ؛لأنه كان يكذب ،ولذلك نختار ان الرؤية كانت رؤية المؤمنين للمشركين ،ولكن قد ورد اعتراضان:
أحدهما:ان المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا ولم يكونوا ضعفهم .
ثانيهما:أن الله سبحانه قد قال في غزوة بدر:{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله امرا كان مفعولا . . .44}[ الأنفال] .
وإن رد الاعتراض الأول سهل ؛فإن العين لا تقدر تقديرا عدديا ،ولكنها تقدر تقديرا تقريبا ؛فثلاثة الأمثال قد ترى رأي العين مثلين .وقد يقال إن المراد بكلمة مثلين ليس التثنية إنما المراد مجرد التكرار وذلك استعمال عربي ،كما في قوله:{ ثم ارجع البصر كرتين . . .4}[ الملك] ،فالمراد تكرار النظر ،لا التقدير بمرتين اثنتين ؛كذلك هنا المراد التكرار العددي لا مجرد مثلين اثنين ،وإن ذلك شائع ،فيقال مثلا:اقرأ هذا مرتين ولا تكتف بالنظرة الأولى ،والمراد التكرار .
أما الاعتراض الثاني ،فقد أجاب عنه ابن كثير في تفسيره المستمد من الأثر ،بأنهم عندما أرادوا حسبانهم رأوهم ضعفهم او يزيدون ،فلما ألقى في قلوب الذين آمنوا البأس والقوة ،والتقوا بهم استهانوا بهم؛ ولذا روى عن ابن مسعود انه قال في غزوة بدر:"نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ،ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا"وتلك حكمة الله العلي الخبير ؛رأوهم يزيدون عليهم أضعافا ،وذلك هو الحس الواقع ،ولكن عند اللقاء ضعف امامه فيكون الانهزام ،وإن استهان مع الحرص كان النصر ؛ولذا سئل على رضي الله عنه:كيف كنت تصرع من يبارزك ؟فقال:"كنت أكون وهو على نفسه"أي ان عليا يقدم مستعليا بإيمانه على خصمه ، وخصمه يحس بالخوف فتكون عليه قوتان ينتفع بهما على:قوة من نفسه ،وقوة من نفس خصمه ولدها الخوف .
{ والله يؤيد بنصره من يشاء عن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}
اشتمل ذلك النص الكريم على حقيقة مقررة ،ودعوة على التأمل والاستبصار لولى الأبصار ،ليمتنع الناس عن الاغترار بالقوة والاعتزاز بغير الله تعالى .أما الحقيقة فهي ان الله ينصر من يشاء ،فهو الذي سينصر ويخذل ،وان من يعتمد على قوته وحده من غير اعتبار بما تجري به المقادير يخذله الله ،وإن شان الذين يغترون بالقوة المادية دائما ويعتزون بها لا يعتمدون على الله تعالى ،ولا يعملون حسابا للقدر الذي يجريه خالق الكون حسب مشيئته وتدبيره ،وأنهم إذ ينسون هذا يأتيهم القدر من حيث لا يحتسبون ،فينهزمون حيث يرتقبون النصر ؛وإذا كان النصر والخذلان بيد الله تعالى ،فالله سبحانه ينصر من ينصره ،ويخذل من يكفره ،كما قال تعالى:{ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم7}[ محمد]وكما قال تعالى:{ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز40} [ الحج] .
وأما الدعوة إلى الاعتبار فقد ذكرها رب البرية بقوله تعالى:{ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}أي إن ذلك الذي رأوه وشاهدوه وهو ان الفئة القليلة المؤمنة التي تقاتل في سبيل الله ،غلبت الفئة الكثيرة الكافرة التي في سبيل الشيطان مع كثرتها وعدتها وأموالها فيه اعتبار بان يجعلوا منه سبيلا لإدراك المستقبل ؛فإن العبرة معناها في اللغة وفي عرف القرآن والناس ان يؤخذ من الأمور الواقعة المحسوسة دليل على ما يمكن ان يأتي المستقبل غير المحسوس والمكشوف ،فكان الكفر مع كثرته ،ان القوة المادية ليست كل شئ ؛وإن الذي يدرك ذلك هم أولوا الأبصار ،أي أصحاب المدارك الصحيحة التي تفهم الأمور على وجهها ،فالمراد من الأبصار ليس البصر الحسي بل البصر المعنوي العقلي ولكن الذين طمست عليهم المادة لا يدركون الأمور على وجهها ،كما قال تعالى:{ لهم قلوب لا يفقهون بها لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون149}[ الأعراف] .
وإنه لكي تخرج النفس من ربقة المادة تذكر الله دائما ،كما قال تعالى:{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب28}[ الرعد] .اللهم ثبت قلوبنا على دينك والإيمان بنصرك وعدلك يا رب العالمين .