الخطاب في قوله:{ قد كان لكم آية} خطاب للذين كفروا ،كما هو الظاهر ؛لأنّ المقام للمحاجّة ،فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة .فيكون من جملة المقول ،ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ،فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون ؛إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين ،أو اليهود ،أو كليهما ،يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر .
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر .
والالتقاء: اللقاء ،وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ،واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد ،ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} وسيأتي .والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان:
فلما التقينا بين لسيف بيننا *** لسائلة عنا حفي سؤالها .
وهذه الآية تحتمل المعنيين .
وقوله{ فئة تقاتل} تفصيل للفئتين ،وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم ،الوارد بعد الإجمال والجمع .
والفئة: الجماعة من الناس ،وقد نقدم الكلام عليها في قوله تعالى{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} في سورة البقرة .
والخطاب في{ ترونهم} كالخطاب في قوله:{ قد كان لكم} .
والرؤية هنا بصرية بقوله{ رأي العين} والظاهر أن الكفار رأو المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ،فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا .فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم ،وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله:{ ويقللكم في أعينهم} فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ،حتى يستخف المشركون بالمسلمين ،فلا يأخذوا أهميتهم للقائهم ،فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ،وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر المسلمين بعجيب صنع الله تعالى .وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ،وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ،فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوالأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرَين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافو الهزيمة ،وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال{ وإذ يريكموهم إذ القتيتم في أعينكم قليلا} ويكون ضمير الغيبة في قوله{ مثليهم} راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ،وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول .
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب: ترونهم – بناء الخطاب – وقرأه الباقون بياء الغيبة: على أنه حال من{ أخرى كافرة} ،أو من{ فئة تقاتل في سبيل الله} أي مثلي عدد المرئين .إن كان الراءون هم المشركون ،أو مثلي عدد الرائين ،إن كان الراءون هم المسلمين .لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر وكل فئة علمت رؤيتها وتُحديت بهاته الآية ،وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التغيير بفئتكم إلى قوله{ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة} لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ،فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع بطريقة التوجيه .
و{ رأي العين} مصدر مبين لنوع الرؤية: إذ كانفعل رأى يحتمل البصر والقلب وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لرأى القلبية .كيف والرأي اسم للعقل ،وتشار فيها رأى البصرية ،بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية .
وجملة{ والله يؤيد بنصره من يشاء} تذييل لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين .قال تعالى{ إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا} .