{ *وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين 133 الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين134 والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون135 أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها ونعم اجر العاملين136}
هذه الآيات موصولة بالآيات التي قبلها ؛إذ الآيات التي قبلها ختمت بالأمر بطاعة الله ورسوله ، فقد قال سبحانه:{ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} وفي هذه الآيات بيان معنى هذه الطاعة المطلوبة التي تؤدى إلى التراحم والتواصل والتواد ، ولذلك كانت هناك رواية بالقراءة من غير وصل بالواو{ سارعوا}{[567]} بدل{ وسارعوا} . وإن رواية القراءة من غير وصل واضحة من حيث النسق في انها تفصيل لمعنى الطاعة المطلوبة ، والقراءة المشهورة التي عليها القراء السبعة فيها ما يدل على انها لبيان معنى الطاعة بالمعاني لا بالنسق .
{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} المسارعة هنا معناها المبادرة و الاتجاه الذي لا تراخي فيه ، ومعنى المسارعة إلى مغفرة الله تعالى المبادرة باتخاذ طريقها ، بأن يطهر قلبه من المعاصي ونفسه من الأدران ، ويتجه إليه سبحانه بقلب سليم قد رخص عنه المعاصي كما رحض الثوب من الأوساخ ، ولقد فسر ذو النورين قوله تعالى{ إلى مغفرة من ربكم} بالإخلاص ، أي بادروا بالإخلاص وتنقية القلوب إلى مغفرة الله تعالى فإن ذلك هو الطريق المستقيم لطلب رضا الله تعالى ، ولقد عظم سبحانه وتعالى شأن المغفرة التي ينبغي طلبها والاتجاه إليها فذكر بأنها تجئ من ربكم الذي خلقكم ونماكم ورعاكم ، فهي مغفرة تعلو بعلو مصدرها وهي الأمان والاعتصام .
ويلاحظ ان القرآن يعدى المسارعة في الخير ب"إلى"، والمسارعة في الشر ب"في"، فيقول سبحانه:{ يسارعون في الكفر} ، ويقول هنا"{ وسارعوا إلى مغفرة} ؛ لأن المسارعة في الكفر تنقل في براثنه فهم في قبته المظلمة التي تحيط بهم يتنقلون بالضلال في أرجائها ، وهم في مرتبة واحدة ، اما المسارعة إلى الخير ، فإنها انتقال من رتبة إلى رتبة ، ومن مقام صالح إلى مقام أصلح منه .
{ وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} هذا عطف على مغفرة ،وفيها إشارة إلى ان مغفرة الله سبحانه تطلب وحدها ؛ لن فيها طلب رضا الله تعالى ، ورضا الله تعالى أكبر غايات المتقين ، ولذا قال تعالى في جزاء المتقين:{ ورضوان من الله اكبر . . .72}[ التوبة] . فأكابر المتقين يطلبون رضا الله لذاته لا خفا من ناره ولا طمعا في جناته .
فالمطلوب الأكبر هو المغفرة ، والمطلب الذي يليه هو"جنة عرضها السموات والأرض"وهو ما يطلبه الذين دون الصديقين والشهداء ، والعرض ضد الطول ، وهو أقصر منه في الغالب ، والنص لبيان سعة الجنة ، لأنها رحمة الله تعالى بعباده الأتقياء ، ولذا عبر عن هذه السعة بأوسع ما يدركه الحس ، وأوسع ما يعلمه الناس من خلقه سبحانه ، وقد يقول قائل:لم ذكر العرض ، ولم يذكر الطول ، وهو أدل على الانفراج والبسط ؟ والجواب عن ذلك أن ذكر العرض أبلغ في الدلالة ، لأنه إذا كان عرضها كعرض السموات والأرض فإنه يذهب العقل في إدراك طولها كل مذهب ، ويتصور الكثير من الصور ، وذلك كقول الله تعالى:{ بطائنها من إستبرق . . .54}[ الرحمن] فإنه إذا كانت البطانة من الحرير الثمين فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه العين ويسر الناظرين ؟ وقد يقال إن ذكر العرض ذكر للطول فإن تنسيق البيان يوجب المساواة بين طول الجنة وطول السموات والأرض ، كما ان عرضها كعرضهما ، ويكون ذلك من الإيجاز البليغ .
وقد فسر أبو مسلم الأصفهاني- العرض هنا- بالأشياء القيمية المعروضة للبيع التي جمعها عروض ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الغني عن كثرة العرض ، ولكن الغني غنى النفس"{[568]} ، ويكون المعنى على هذا التفسير ان الجنة في قيمتها وعلوها وسموها ومكانتها تعادل السموات والأرض في قيمتها ، فهي الحياة وهي النعيم المقيم الدائم:{ أعدت للمتقين}أي هيئت ووضعت للمتقين ، وهم الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية أي جعلوا انفسهم في حصن فلا مدخل للشيطان إليها ، ولا سارب له في قلوبهم ، وصار ذلك شانا من شئونهم حتى كان وصفا وحالا دائمة مستمرة لهم .