ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات ، فقال:( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) أي:كما أعدت النار للكافرين . وقد قيل:إن معنى قوله:( عرضها السماوات والأرض ) تنبيها على اتساع طولها ، كما قال في صفة فرش الجنة:( بطائنها من إستبرق ) [ الرحمن:54] أي:فما ظنك بالظهائر ؟ وقيل:بل عرضها كطولها ، لأنها قبة تحت العرش ، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله . وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح:"إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة ، وسقفها عرش الرحمن ".
وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد:( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) الآية [ رقم:21] .
وقد روينا في مسند الإمام أحمد:أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم:إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله ! فأين الليل إذا جاء النهار ؟ ".
وقد رواه ابن جرير فقال:حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد ، عن أبي خثيم ، عن سعيد بن أبي راشد ، عن يعلى بن مرة قال:لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص ، شيخا كبيرا فسد ، قال:قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل ، فناول الصحيفة رجلا عن يساره . قال:قلت:من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا:معاوية . فإذا كتاب صاحبي:"إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار ؟ قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله ! فأين الليل إذا جاء النهار ؟ ".
وقال الأعمش ، وسفيان الثوري ، وشعبة ، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب ، أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار ؟ فقال عمر [ رضي الله عنه] أرأيتم إذا جاء الليل أين النهار ؟ وإذا جاء النهار أين الليل ؟ فقالوا:لقد نزعت مثلها من التوراة .
رواه ابن جرير من الثلاثة الطرق ثم قال:حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا جعفر بن برقان ، أنبأنا يزيد بن الأصم:أن رجلا من أهل الكتاب قال:يقولون:( جنة عرضها السماوات والأرض ) فأين النار ؟ فقال ابن عباس:أين يكون الليل إذا جاء النهار ، وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟
وقد روي هذا مرفوعا ، فقال البزار:حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم ، عن عمه يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:أرأيت قوله تعالى:( جنة عرضها السماوات والأرض ) فأين النار ؟ قال:"أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء ، فأين النهار ؟ "قال:حيث شاء الله . قال:"وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل ".
وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما:أن يكون المعنى في ذلك:أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل ، وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة ، عن البزار .
الثاني:أن يكون المعنى:أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش ، وعرضها كما قال الله ، عز وجل:( كعرض السماء والأرض ) [ الحديد:21] والنار في أسفل سافلين . فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض ، وبين وجود النار ، والله أعلم .