ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة ، فقال:( الذين ينفقون في السراء والضراء ) أي:في الشدة والرخاء ، والمنشط والمكره ، والصحة والمرض ، وفي جميع الأحوال ، كما قال:( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) [ البقرة:274] . والمعنى:أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه ، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر .
وقوله:( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) أي:إذا ثار بهم الغيظ كظموه ، بمعنى:كتموه فلم يعملوه ، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم وقد ورد في بعض الآثار:"يقول الله تعالى:ابن آدم ، اذكرني إذا غضبت ، أذكرك إذا غضبت ، فلا أهلكك فيمن أهلك "رواه ابن أبي حاتم .
وقد قال أبو يعلى في مسنده:حدثنا أبو موسى الزمن ، حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل ، حدثنا الربيع بن سليمان النميري عن أبي عمرو بن أنس بن مالك ، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كف غضبه كف الله عنه عذابه ، ومن خزن لسانه ستر الله عورته ، ومن اعتذر إلى الله قبل عذره "[ و] هذا حديث غريب ، وفي إسناده نظر .
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال:"ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ". وقد رواه الشيخان من حديث مالك .
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن الحارث بن سويد ، عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ "قال:قالوا:يا رسول الله ، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال:"اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، ما لك من مالك إلا ما قدمت ، ومال وارثك ما أخرت ". قال:وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تعدون فيكم الصرعة ؟ "قلنا:الذي لا تصرعه الرجال ، قال:قال "لا ، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب ". قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تعدون فيكم الرقوب ؟ "قال:قلنا:الذي لا ولد له . قال:"لا ، ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئا ".
أخرج البخاري الفصل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش ، به .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت عروة بن عبد الله الجعفي يحدث عن أبي حصبة ، أو ابن حصبة ، عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال:"تدرون ما الرقوب ؟ "قالوا الذي لا ولد له . قال:"الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ، ولم يقدم منهم شيئا ". قال:"تدرون ما الصعلوك ؟ "قالوا:الذي ليس له مال . قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال ، فمات ولم يقدم منه شيئا ". قال:ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما الصرعة ؟ "قالوا:الصريع . قال:فقال صلى الله عليه وسلم الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ، ويحمر وجهه ، ويقشعر شعره ، فيصرع غضبه ".
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام - هو ابن عروة - عن أبيه ، عن الأحنف بن قيس ، عن عم له يقال له:جارية بن قدامة السعدي ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله ، قل لي قولا ينفعني وأقلل علي ، لعلي أعيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب ". فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا ، كل ذلك يقول:"لا تغضب ".
وكذا رواه عن أبي معاوية ، عن هشام ، به . ورواه [ أيضا] عن يحيى بن سعيد القطان ، عن هشام ، به ، أن رجلا قال:يا رسول الله ، قل لي قولا وأقلل علي لعلي أعقله . قال:"لا تغضب ".
الحديث انفرد به أحمد .
حديث آخر:قال أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:قال رجل:يا رسول الله ، أوصني . قال:"لا تغضب ". قال الرجل:ففكرت حين قال صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله .
انفرد به أحمد .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية ، حدثنا داود بن أبي هند عن ابن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبي الأسود ، عن أبي ذر قال:كان يسقي على حوض له ، فجاء قوم قالوا أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه فقال رجل:أنا . فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه ، وكان أبو ذر قائما فجلس ، ثم اضطجع ، فقيل له:يا أبا ذر ، لم جلست ثم اضطجعت ؟ فقال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا:"إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ".
ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل بإسناده ، إلا أنه وقع في روايته:عن أبي حرب ، عن أبي ذر ، والصحيح:ابن أبي حرب ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، كما رواه عبد الله بن أحمد ، عن أبيه .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن خالد:حدثنا أبو وائل الصنعاني قال:كنا جلوسا عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل ، فكلمه بكلام أغضبه ، فلما أن غضب قام ، ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال:حدثني أبي ، عن جدي عطية - هو ابن سعد السعدي ، وقد كانت له صحبة - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا أغضب أحدكم فليتوضأ ".
وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني ، عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني:قال أبو داود:أراه عبد الله بن بحير .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا نوح بن جعونة السلمي ، عن مقاتل بن حيان ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أنظر معسرا أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم ، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة - ثلاثا - ألا إن عمل النار سهل بسهوة . والسعيد من وقي الفتن ، وما من جرعة أحب إلى الله [ عز وجل] من جرعة غيظ يكظمها عبد ، ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيمانا ".
انفرد به أحمد ، إسناده حسن ليس فيه مجروح ، ومتنه حسن .
حديث آخر في معناه:قال أبو داود:حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - عن بشر - يعني ابن منصور - عن محمد بن عجلان ، عن سويد بن وهب ، عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمنا وإيمانا ، ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه - قال بشر:أحسبه قال:"تواضعا "- كساه الله حلة الكرامة ، ومن زوج لله كساه الله تاج الملك ".
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد ، حدثني أبو مرحوم ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله على رءوس الخلائق ، حتى يخيره من أي الحور شاء ".
ورواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث سعيد بن أبي أيوب ، به . وقال الترمذي:حسن غريب .
حديث آخر:قال:عبد الرزاق:أخبرنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام - يقال له:عبد الجليل - عن عم له ، عن أبي هريرة في قوله تعالى:( والكاظمين الغيظ ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كظم غيظا ، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا ". رواه ابن جرير .
حديث آخر:قال ابن مردويه:حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، أخبرنا يحيى بن أبي طالب ، أخبرنا علي بن عاصم ، أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن ، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله ".
وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر ، عن حماد بن سلمة ، عن يونس بن عبيد ، به .
فقوله:( والكاظمين الغيظ ) أي:لا يعملون غضبهم في الناس ، بل يكفون عنهم شرهم ، ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل .
ثم قال [ تعالى] ( والعافين عن الناس ) أي:مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم ، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد ، وهذا أكمل الأحوال ، ولهذا قال:( والله يحب المحسنين ) فهذا من مقامات الإحسان .
وفي الحديث:"ثلاث أقسم عليهن:ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله ".
وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي ، عن عبادة بن الصامت ، عن أبي بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من سره أن يشرف له البنيان ، وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ، ويعط من حرمه ، ويصل من قطعه ".
ثم قال:صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي ، وكعب بن عجرة ، وأبي هريرة ، وأم سلمة ، بنحو ذلك . وروي عن طريق الضحاك ، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول:أين العافون عن الناس ؟ هلموا إلى ربكم ، وخذوا أجوركم ، وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة ".