/م130
ثم وصف المتقين بالصفات الخمس الآتية فقال:
1-{ الذين ينفقون في السراء والضراء} أي في حالة الرخاء والسعة وحالة الضيق والعسرة كل حالة بحسبها كما قال تعالى في بيان حقوق النساء المعتدات:{ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [ الطلاق:7] والسراء من السرور أي الحالة التي تسر والضراء من الضرر أي الحالة الضارة وروي عن ابن عباس تفسيرهما باليسر والعسر .
وقد بدأ وصف المتقين بالإنفاق لوجهين:أحدهما:مقابلته بالربا الذي نهى عنه في الآية السابقة فإن الربا هو استغلال الغني حاجة المعوز وأكل ماله بلا مقابل والصدقة إعانة له وإطعامه ما لا يستحقه فهي ضد الربا .ولم يرد في القرآن ذكر الربا إلا وقبح ومدحت معه الزكاة والصدقة كما قال:{ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [ الروم:39] وفي سورة البقرة:{ يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [ البقرة:276] .
ثانيهما:أن الإنفاق في السراء والضراء أدل على التقوى وأشق على النفوس وأنفع للبشر من سائر الصفات والأعمال .قال الأستاذ الإمام ما مثاله:إن المال عزيز على النفس لأنه الآلة لجلب المنافع والملذات ، ورفع المضار والمؤلمات ، وبذله في طريق الخير والمنافع العامة التي ترضي الله تعالى يشق على النفس ، أما في السراء فلما يحدثه السرور والغنى من الأشر والبطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل ، وأما في الضراء فلأن الإنسان يرى نفسه فيها جديرا بأن يأخذ ومعذورا إن لم يعط وإن لم يكن معذورا بالفعل ، إذ مهما كان فقيرا لا يعدم وقتا يجد فيه فضلا ينفقه في سبيل الله ولو قليلا .وداعية البذل في النفس هي التي تنبه الإنسان إلى هذا العفو الذي يجده أحيانا ليبذله .فإن لم تكن الداعية موجودة في أصل الفطرة فأمر الدين الذي وضعه الله لتعديل الفطرة المائلة وتصحيح مزاج المعتلة يوجدها ويكون نعم المنبه لها وقد فسر بعضهم الضراء بما يخرج الفقراء من هذه الصفة من صفات المتقين وليس بسديد .
يقول من لا علم عنده:إن تكليف الفقير والمسكين البذل في سبيل الله لا معنى له ولا عناء فيه .وربما يقول أكثر من هذا – يعني أنه ينتقد ذلك من الدين .والعلم الصحيح يفيدنا أنه يجب أن تكون نفس الفقير كريمة في ذاتها وأن يتعود صاحبها الإحسان بقدر الطاقة وبذلك ترتفع نفسه وتطهر من الخسة وهي الرذيلة التي تعرض للفقراء فتجرهم إلى رذائل كثيرة ، ثم إن النظر يهدينا إلى أن القليل من الكثير كثير .فلو أن كل فقير في القطر المصري مثلا يبذل في السنة قرشا واحدا لأجل التعليم لاجتمع من ذلك ألوف الألوف ، وتيسر به عمل في البلاد كبير فكيف إذا أنفق كل أحد على قدره كما قال تعالى:{ لينفق ذو سعة من سعته} الخ .
إذا كان الله تعالى قد جعل الإنفاق في سبيله علامة على التقوى أو أثرا من آثارها حتى في حال الضراء وكان انتفاؤه علامة على عدم التقوى التي هي سبب دخول الجنة فكيف يكون حال أهل السراء الذين يقبضون أيديهم ؟ وهل يغني عن هؤلاء من شيء أداء الرسوم الدينية الظاهرة التي يتمرنون عليها عادة مع الناس ؟
2-{ والكاظمين الغيظ} قال الراغب:الغيظ أشد الغضب ، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه .وقال الأستاذ الإمام:الغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف ، فيزعجها إلى التشفي والانتقام .ومن أجاب داعي الغيظ إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ولا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي ، لذلك كان من التقوى كظمه ، وفي روح المعاني:إن الغيظ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر ، والفرق بينه وبين الغضب ما يظهر على الجوارح والغيظ ليس كذلك "ا ه والاقتصار في سبب الغيظ على رؤية ما ينكر غير مسلم ، أما الكظم فقد قال في الأساس: "كظم البعير جرته ازدردها وكف عن الاجترار ...وكظم القربة ملأها وسد رأسها وكظم الباب سده .وهو كظام الباب لسداده .ومن المجاز كظم الغيظ وعلى الغيظ ، فهو كاظم .وكظمه الغيظ والغم أخذ بنفسه فهو مكظوم وكظيم:{ إذ نادى وهو مكظوم} [ القلم:48]{ ظل وجهه مسودا وهو كظيم} [ النحل:58] وما كظم فلان على جرته:إذا لم يسكت على ما في جوفه حتى تكلم به .وغمني وأخذ بكظمي .وهو مخرج النفس وبأكظامي ا ه .
وقال الأستاذ الإمام:أصل الكظيم مخرج النفس .
والغيظ وإن كان معنى له أثر في الجسم يترتب عليه عمل ظاهر فإنه يثور بنفس الإنسان حتى يحمله على ما لا يجوز من قول أن فعل فلذلك سمي حبسه وإخفاء أثره كظما .وقال الزمخشري في الكشاف بعد الإشارة إلى أصل معنى الكظم:ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا .ويروى عن عائشة أن خادما لها غاظها فقالت"لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء ".
3-{ والعافين عن الناس} العفو عن الناس هو التجافي عن ذنب المذنب منهم وترك مؤاخذته مع القدرة عليها وتلك مرتبة في ضبط النفس والحكم عليها وكرم المعاملة قل من يتبوأها .فالعفو مرتبة فوق مرتبة كظم الغيظ إذ ربما يكظم المرء غيظه على حقد وضغينة .
4- وهناك مرتبة أعلى منهما وهي ما أفاده قوله عز وجل:{ والله يحب المحسنين} فالإحسان وصف من أوصاف المتقين ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات بل صاغه بهذه الصيغة تميزا له بكونه محبوبا عند الله تعالى- لا لمزيد مدح من ذكر من المتقين المتصفين بالصفات السابقة ولا مجرد مدح المحسنين الذي يدخل في عمومه أولئك المتقون كما قيل – فالذي يظهر لي هو ما أشرت إليه من أنه وصف رابع للمتقين كما يتضح من الواقعة الآتية:يروى أن بعض السلف غاظه غلام له فجأة غيظا شديدا فهم بالانتقام منه فقال الغلام"والكاظمين الغيظ "فقال كظمت غيظي .قال الغلام"والعافين عن الناس "قال عفوت عنك .قال"والله يحب المحسنين "قال اذهب فأنت حر لوجه الله .فهذه الواقعة تبين لك ترتب المراتب الثلاث .
/خ134