فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد20 إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم 21 أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ومالهم من ناصرين22
ذكر سبحانه اختلاف اهل الكتاب فيما بينهم ،واختلافهم على أنبيائهم بعد ان جاءتهم البينات من ربهم ؛وفي هذه الآية يبين سبحانه محاجتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ،وأشار إلى انها محاجة ليس أساسها الإذعان للحق إذا تبين ،بل أساسها محاولة طمس الحق ،واللجاجة بالباطل ؛وذلك لن المجادلة قسمان:قسم يراد به طلب الحق وتمحيصه ،ودراسة الأمر من كل نواحيه ،وتبادل الأدلة ليستبين من بينها نور الحق ،وهذا القسم محمود لا شك فيه .والقسم الثاني لا يقصد به طلب الحق ، بل يقصد به الدفاع عن فكرته من غير نظر إلى كونها حقا او باطلا ،فهو يجادل ليغالب خصمه ،لا ليهتدي إلى أقوم المناهج ؛ومن ذلك النوع الأخير مجادلة أولئك الذين اختلفوا من اهل الكتاب ، ومجادلة أولئك الذين جحدوا بالآيات من المشركين الذين قال الله سبحانه وتعالى في أمثالهم:{ وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم . . .14}[ النمل] وإذا كان جدل هؤلاء من ذلك النوع الذي لا يقصد به رفع منار الحق او طلب الحق ،فإن النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه طلب إليهم ان يخلصوا في طلب الحقيقة كما اخلص هو ؛ولذا قال سبحانه:
{ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم} المحاجة:ان يتبادل المتجادلان ما يعتقده كل فريق انه حجة بأن يقدم كل واحد حجته ،ويطلب من الآخر ان يرد عليها او يقدم الحجة على ما يدعيه ويزعمه الحق الذي لا شك فيه .والمعنى:فغن حاجك اهل الكتاب ،ومن لف لفهم ،وسلك مثل طريقهم ،فلا تسر معهم في لجاجتهم ؛فهم لا يطلبون الحق مخلصين في طلبه لا يبغون بدله ،ولا يريدون غيره ؛بل إنهم قد شاهت عقولهم ،وتأشبت بالغرض المردى نفوسهم وكلامهم هو التمويه الكاذب ولذلك لا تجارهم في هذه اللجاجة ،واطلب تصفية قلوبهم من الغرض والهوى ،وابدأ بنفسك فبين سلامة مقصدك ونيتك:{ فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} .والوجه المراد به الذات ؛لأنه هو الذي تكون به المواجهة ،وهو مجمع محاسن الجسم ؛فالتعبير به عن الجسم تعبير بجزء له شأن خاص وتتم به إرادة الكل .ومعنى أسلمت وجهي:أخلصت وسلمت نفسي وتفكيري لله سبحانه وتعالى ،فلا أفكر إلا في الله ،ولا أطلب الأمر إلا لله ،ولا أقصد في طلبي إلا وجه الله .ومعنى قوله:{ ومن اتبعن}أي قد أسلم الذين اتبعوني وارتضوا الإسلام دينا؛ فقد اخلصوا في طلب الحق واسلموا وجوههم لله تعالى .وإن إسلام الوجه لله تعالى وحده فيه إشارة إلى التوحيد ،وان محمدا وأتباعه لا يعبدون إلا الله ،وفوق ذلك لا يطلبون أي امر من الأمور إلا لوجه الله تعالى ؛وتكون هذه الجملة السامية كقوله تعالى:{ يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون64}[ آل عمران] .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قد أخلصوا لله ذلك الإخلاص في العبادة فإن الأساس الذي تبنى عليه المجادلة بالتي هي أحسن ،أن يطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم ان يكونوا على مثل تلك الحال من الإخلاص في طلب الحقيقة ؛ولذا امر الله نبيه بأن يطلب إليهم ذلك ،فقال سبحانه:{ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم} .
أهل الكتاب:هم اليهود والنصارى ؛لأن أسلافهم قد أوتوا الكتاب أي أعطوه كاملا وأخذوه كاملا ، وإن كانوا مع ذلك قد نسوا حظا مما ذكروا به .والأميون هم المشركون ،وجاء التعبير عن المشركين بالأميين ؛لأنهم أولا تغلب فيهم الأمية ؛إذ قليل منهم من يقرأ ويكتب ،وليست لهم علوم ؛ ولذا كان يقول العرب عن أنفسهم ؛نحن امة أمية ،ولأنهم لم يعرف لهم كتاب يرجعون إليه في أحكام دينهم .وفوق ذلك هذا التعبير فيه توبيخ لليهود والنصارى ؛إذ إنهم بعدم تسليمهم للحق وإذعانهم له تساووا مع أولئك الذين كان يسميهم اليهود أميين ولا يحترمونهم ،ويقولون عنهم:{ ليس علينا في الأميين سبيل . . .75}[ آل عمران] .ومعنى النص الكريم:قل لأهل الكتاب والمشركين:إذا كنت قد أخلصت في طلب الحق فهل أخلصتم ؟
والاستفهام في قوله تعالى:{ أسلمتم}للحض على ان يسلموا وجوههم لله ويخلصوا في طلب الحقيقة مجردين أنفسهم من كل هوى وغرض وتعصب ، بدل أن يحاولوا الإلحان بالحجة والمغالبة بالقول ،وان يستمروا على اللجاجة في الجدل .وبهذا يتضمن الاستفهام معنى جليلا وهو ان يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن العبرة في طلب الحقائق ليس بالأدلة تصطنع ،والحجج تزور ،وإنما العبرة بإسلام الوجه والإخلاص في طلب الحقيقة ،وقد قال في ذلك الزمخشري:"وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ،ولم تبق من طرق الاستدلال طريقا إلا سلكته:هل فهمتها ؟لا أم لك ! "ويكون الاستفهام حينئذ عند الزمخشري من قبيل التوبيخ على عدم الإخلاص .
وعندي ان الاستفهام بمعنى الحض ،والمعاني على أي حال متقاربة .ولقد بين سبحانه نتيجة الإخلاص إن اخلصوا فقال:{ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ}والمعنى:إن أسلموا وجوههم لله ،وأخلصوا دينهم لله ،ولم يلاحظوا في طلب الحقيقة عصبية مذهبية او جنسية ، فقد اهتدوا أي سلكوا طريق الحق ،ومن سار على الدرب وصل .وقد فسرها بعض العلماء بمعنى يهتدون ،وعبر بالماضي لتحقق الهداية تحققا كاملا .وعندي ان نفس ذلك الإخلاص ،وهو إسلام الوجه لله تعالى هو الهداية الحق ،فمن أسلم وجهه لله تعالى مخلصا في طلب الحق ،فقد اهتدى حقا وصدقا ؛إذ إن ذلك الإخلاص هو روح الدين وغايته ،قمن وصل إليه فإنه لا محالة سيتبع الدين الذي يوصل إليه وهو الإسلام .
هذا إن اخلصوا ،وإن تولوا أي اعرضوا عن هذا الإخلاص ،وانصرفوا إلى المثارات البيانية يثيرونها ليطفئوا نور الحق ،فما من حجة تهديهم ،وما من آية ترشدهم ،وقد أديت ما وجب عليك وهو التبليغ ؛ولذا قال سبحانه:{ وإن تولوا فإنما عليك البلاغ}وقد بلغتهم فالمحاجة معهم لا تجدي ؛ لأنهم مكابرون ،والمكابر لا تزيده قوة الحجة إلا إصرارا وعنادا ولجاجة ؛فإن اعرضوا فأعرض عنهم ،واتجه إلى المخلصين طلاب الحقيقة تهديهم وترشدهم ،وتأخذ بيدهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا وثوابهم في الآخرة .ثم ذيل سبحانه الآية بقوله تعالى:{ والله بصير بالعباد} .
والمعنى انه سبحانه وتعالى عليم علم من يبصر بالعباد ،يعلم نفوسهم ما يهديها وما يرديها ،وما يصلحها وما يجدبها ؟ ،وعليم بنفوس هؤلاء المتمردة التي لا تبغي سدادا ،ولا تريد رشادا ،وعليم بمسالكهم في الدنيا ،وأعمالهم التي اركستهم في ذلك الضلال المتكاثف ،والذي يزيده إمعانهم في الإنكار والجحود ظلاما ،وعليم بما يصيبهم في الآخرة .فهذا التذييل لتلك الآية الكريمة فيه عزاء للنبي عن كفرهم وإشارة إلى أحوالهم ،وإنذار بسوء مصيرهم .
وقبل ان نختم الكلام في هذه الآية الكريمة نقرر ان جمع اهل الكتاب والأميين في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى عموم رسالته ،كما قال تعالى:{ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا . . .28}[ سبأ]ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"بعثت إلى الحمر والأسود"{[479]} وقال صلى الله عليه وسلم:"كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ،وبعثت إلى الناس كافة"{[480]} ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا يسمع بي احد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ،ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من اهل النار"{[481]} .