قوله تعالى: ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) .
كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أظهر لأهل الكتاب الحجة الثابتة على صدق نبوته ،وكان قد أظهر لهم من المعجزات والبينات والدلائل ما يكشف على التمام أنه رسول أمين .
لكنهم مع ذلك كله قد جحدوا وتمردوا وأبوا إلا اللجوج في الضلال والغي ؛لذلك يأمر الله نبيه الكريم صلى الله عليه و سلم بالقول لهم ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) أي إن خاصموك بعد ذلك أو جادلوك بالأقاويل الفاسدة والافتراءات القائمة على التضليل والتحريض فقل لهم: إنني منقاد لله وحده ،منقاد له بكياني كله .وعبر بالوجه في الآية ع بقية الجوارح وأعضاء البدن ؛لشرف الوجه وتميزه على الجسد كله بتمام الشكل والصورة وانسجام الأعضاء والمركبات التي يتألف منها الوجه ،ما بين عين تبصر ،ولسان نطاق ذاكر ،وقسمات ترسم على الوجه علائم الهشاشة المريحة .
على أن المسلم إنما يسلم لله بكيانه كله .وفي طليعة ذلك كله عناصر أساسية كبرى في كينونة الإنسان وفي شخصيته المتكاملة الملتئمة ،وأهمها الذهن والقلب والضمير والمشاعر: لا جرم أن ذلك كله مستسلم لله ومنقاد لأوامره وشرائعه دون إبطاء أو انثناء .
ويأتي الرسول صلى الله عليه و سلم في مقدمة المؤمنين من حيث الاستسلام لله كليا .والنبي عليه السلام هو إمام المسلمين الأول في هذه الدنيا ويوم تقوم الساعة ،لا جرم أنه إمامهم وقائدهم إلى طاعة الله والخضوع لمنهج القويم ،بل إنه قائدهم إلى الخير والسعادة والنجاة في الدارين .
ثم يأمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم بالقول للكافرين – جميعا وهم أكل الكتاب والمشركون الأميون العرب-: ( أأسلمتم ) وهو استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الأمر .أي هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة لله رب العالمين دون غيره من الشركاء والأنداد التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم ...( فإن أسلموا ) ،أي انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة له والألوهية ( فقد اهتدوا ) أي أصابوا الحق وسلكوا محجة الرشد والسداد ،لكنهم إن تولوا عن محجة الإسلام وطريق الله القويم ( فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) أي ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة لهم .وهذه رسالة الإسلام إلى الناس .رسالة الحق واليقين وإخلاص العبادة والتوحيد لرب العالمين .وفي ذلك ما يسرّي عن الرسول صلى الله عليه و سلم بما يكفكف عنه الشعور بالأسى أو الحزن لكفرانهم وإدبارهم ،فإنما هو مبلغ أمين قد أوفى بما اضطلع به من حمل لأمانة التبليغ تمام الوفاء وكفى .
قوله: ( والله بصير بالعباد ) وهذا وعد ووعيد .وعد من الله لعباده المؤمنين المخلصين الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله دون سواه .والذين صبروا على الحق خلال طريقهم الطويل الشاق وخلال جهادهم المرير للظالمين من وثنيين وصليبيين وملحدين وصهيونيين واستعماريين وغيرهم من أولي الملل الضالة الكفارة .لا جرم أن الله منجي عباده الأبرار الصابرين ومهلك الضالين المضلين الذين أبوا غير طريق الشيطان فاتخذوه سبيلا .أولئك ما كان لهم إلا الخسران في هذه الدنيا حيث اللعائن من الله تحيق بهم طيلة الزمان لتحل بديارهم على الدوام قوارع العذاب الدنيوي المهين كالعاهات والمآسي النفسية والاجتماعية والبدنية .
وذلك كله بين يدي الساعة والتلاقي الكوني المحتوم حيث الهوان المريح ،والإبلاس المزلزل المطبق !