{ وإذ قالت الملائكة يا مريم عن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين42 يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين43 ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم غذ يختصمون44}
بين الله سبحانه المر الخارق للسنن التي سنها في خروج الحي من الحي ،بالنسبة لولادة يحيى من عجوز عاقر ،وغن الذي خرق هذه السنن هو خالق السنن ،وغنما خرقها الذي خلقها ليعلم الناس انه سبحانه خلقها بإرادته وحكمته ؛فإنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد .وبعد ان بين ذلك ،وهو العليم ،مهد سبحانه لخارق أعظم وأبين ،ليقرع حس الناس في عصر غلب فيه التفكير المادي على التفكير الروحي ؛وذلك هو خلق عيسى بن مريم من غير أب ،كما خلق من قبل آدم من غير أب ولا ام ،وكان ذلك التمهيد ببيان الإرهاصات التي سبقت ولادة عيسى عليه السلام ،وهو اصطفاء مريم واختيارها لتكون محل تلك الوديعة التي يودعها الله رحمها من غير علاقة ذكر بأنثى ،وكان الاصطفاء بالطهارة والعفة والقنوت ،والركوع والخضوع لرب العالمين ،ثم باختيارها النهائي للوديعة الربانية ؛ولذا قال تعالى:
{ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}"الواو"هنا عاطفة ،وهي تعطف هذا النص الكريم على قوله تعالى:{ إذ قالت امرات عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا . . .35}[ آل عمران]فهذا عود إلى قصة مريم البتول التي ابتدأت بالنذر بها وهي حمل ،ثم ببيان حال أمها عند وضعها وبعد وضعها ،وما كان من رزق الله تعالى لها وكفالة نبي الله زكريا إياها ،مما جعلها تنشأ تنشئة التقوى والورع ،ولما شبت عن الطوق واكتملت في تكوينها وأنوثتها وخاطبتها الملائكة بذبك الخطاب{ قالت الملائكة يا مريم}وتفسر كلمة الملائكة هنا بعدد منهم ،لا بواحد ،كما استظهرنا مع ابن جرير في خطاب الملائكة لمريم البتول ؟أكان بالمخاطبة كما يخاطب النبيون ،أم كان بالإلهام او الرؤيا الصادقة في النوم ؟لم تبين الآية هنا نوع الخطاب ؛ولذا قال بعض العلماء:إن الخطاب كان بالإلهام ،وغلى هذا يومئ الزمخشري رضي الله عنه ،ولكنه صرح بقوله:"روى انهم كلموها شفاها معجزة لزكريا ،أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه السلام".
وبعض العلماء كما ترى قرر ان الخطاب كان مشافهة ولم يكن إلهاما ،ولا رؤيا صادقة في النوم ؛وإنا نميل إلى ذلك الرأي ، ؛لأنه ثبت بنص القرآن الصريح الذي لا يحتمل تأويلا ان الملك خاطبها حين ابتدأ حملها ،كما جاء في سورة مريم ،إذ قال الله سبحانه وتعالى:{ واذكروا في الكتاب مريم إذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا16 فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا غليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا17 قالت إني أعوذ بالرحمن منك عن كنت تقيا18 قال إنما انا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا19}[ مريم] .
والروح الذي ذكر مضافا إليه سبحانه هو روح من عند الله ،أرسله سبحانه ليبشر مريم البتول بعيسى عليه السلام ،ولم يكن الملك يحمل وديعة كما يحمل الإنسان ؛لأنه ليس بإنسان ،والعلاقة الجنسية من خواص الآدمية؛ بل الوديعة التي يحملها هي بشرى ،والخلق والتكوين لرب العالمين ، وهو يخلق الحي من غير جرثومة حياة ،كما يخلق جرثومة الحياة نفسها .
وإذا كانت الملائكة قد خاطبت مريم مشافهة فهل هي نبية ،لن الملائكة خاطبوها ؟هكذا قال بعض العلماء .
ولكن الأكثرون على انه لا يمكن ان تكون نبية ،وخطاب الملائكة لها لا يقتضي النبوة ؛لن النبي من يوحى إليه بشرع ،ومريم لم يوح إليها بشئ من الشرع ،ولكنه كان خطابا للبشارة بواقعة معينة دالة على علة منزلتها ،واصطفاء الله سبحانه وتعالى لها .
والاصطفاء افتعال من صفا ؛فمعنى اصطفى طلب الصفوة المختارة ؛والمعنى اللازم هو اختيار الله تعالى لها باعتبارها من صفوة الإنسانية البرة التقية .ولقد كان اصطفاء الله تعالى إياها مرتين بينهما طهر وتقي ؛فأما الاصطفاء الأول فحين قبولها نذرا من أمها البرة التقية ،واختيارها لسدانة البيت المقدس ؛وأما الاصطفاء الثاني فهو حين اختارها لتكون اما لمن لا أب له ،إذ تلد بعد ان تحمل من غير علاقة تناسلية مما يجري بين البشر ؛وبين الاصطفاءين طهر وتقي وعفاف ،وإيمان وانصراف للعبادة ،وهذا هو معنى قوله تعالى عن خطاب ملائكته لمريم:{ إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}وذكر في الاصطفاء ما يدل على انها به مختارة دون نساء العالمين ؛لأن الاصطفاء الأول ومعه الطهر والتقى لا تختص به مريم ،فكم من عابدات قانتات قوامات بالليل صوامات بالنهار ؛أما الاصطفاء الثاني وهو ان تلد من غير أب فإن ذلك قد اختصت به لم تشركها فيه امرأة في هذا الوجود ؛ولذا قال فيه:{ واصطفاك على نساء العالمين} .
وإن هذا التعبير يدل فوق دلالته على اختصاصها بهذا الاصطفاء ،يدل على ان لها فضلا على نساء العالمين ،إذ إن التعبير{ على نساء العالمين}يتضمن معنى الأفضلية عليهم ،وإن لها ذلك الفضل ،ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري:"كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران ،وآسية امرأة فرعون ،وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"{[496]}وروى من طرق صحيحة:"خير نساء العالمين أربع:مريم بنت عمران ،وآسية امرأة فرعون ،وخديجة بنت خويلد ،وفاطمة بنت محمد"{[497]} .