{ ومن اهل الكتاب من إن تامنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون 75 بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين76 إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم77}
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة استهانة بعض أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم بالحق وتلبيسهم الحق بالباطل ،وكذبهم وافتراءهم على النبيين وعلى رأسهم ابو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ،ثم بين تعصبهم ،وحرصهم على ان يظهروا بين الناس بأن الهداية في حوزتهم وحدهم ،وان الناس ما عداهم دونهم ،ثم ذكر ما يتواصون به فيما بينهم من النفاق بان يؤمنوا اول النهار ويكفروا آخره ،لعلهم يفسدون بذلك عقائد المؤمنين ؛وهكذا مما يدل على فساد اعتقادهم وعدم إذعانهم للحق ،وكذبهم فيما يدعون .
والكذب والخيانة توأم ،كما ان الصدق والأمانة توأم ،وفساد النفس يترتب عليه فساد العمل ،وعدم الإذعان للحق في الاعتقاد يترتب عليه عدم الإذعان للحق في المادة ،فإذا كان بعض أهل الكتاب قد كان منهم ذلك النفاق الديني ،فإنهم قد بدت منهم الخيانة المادية ،ولذا قال سبحانه:
{ ومن اهل الكتاب من عن تامنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما}قسمان متقابلان احدهما يبلغ الغاية من الأمانة ،فيعطيها عند طلبها مهما تكن قيمتها ؛ومهما تكن نفاستها ،وعبر عن الكثرة بالقنطار من الذهب ،ولم يذكر كونه من الذهب ؛لأنه مفهوم من السياق ؛لأن الدينار لا يكون إلا من الذهب ،فلا بد ان يكون القنطار الذي يكون في يد الأمين من الذهب ،وهذا القسم الذي يكون على هذا القدر من الأمانة هو الذي يجيب داعي الحق ويؤمن به إذا دعي إليه ؛ لأن التسليم بالحق في الماديات التي تصورها الأمانة لا ينشأ إلا من ينبوع النفس التي تؤمن بالحق في المعنويات ؛بل إن هذا في الحق ينتهي إلى معنى الأمانة ؛لأن نصر الحق والإذعان له بعد قيام الدليل عليه نوع من الأمانة ،إذ إن الله سبحانه أودعنا هذه القوى المدركة لنجعلها للحق وللنفع ،فذو العلم عليه أن يؤدى أمانة العلم ،وذو المال عليه ان يؤدى أمانة المال ،ومن قام بين يديه الدليل على صدق دعوة إلى الحق لا يكابر ولا يمارى ،وكانت الأمانة ان يعلن تلك الحقيقة ويناصرها ويؤيدها ،ولذلك قال كثيرون من العلماء:إن الأمانة التي حملها الله للإنسان بمقتضى الفطرة هي إدراكه لمعنى التكليفات الإنسانية والإلهية وقيامه بحقها ،وقد قال تعالى:{ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان غنه كان ظلوما جهولا72}[ الأحزاب] .
هذا هو القسم الأول ،وقد قال العلماء إنهم اهل الكتاب الذين آمنوا برسالة محمد صلى اله عليه وسلم ،كعبد الله بن سلام ،وغيره من اليهود الذين سارعوا إلى الإسلام ،وكذلك الشأن في كل كتابي علم الحق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ،وأذعن له ؛لأنه يكون ممن يؤدى الأمانة .
والقسم الثاني هو الذي لا يؤدى الأمانة ،وهو في مقابل الأول ؛لأن الأول في السماك الأعزل ،وهذا في الحضيض الأوهد .وصور الله سبحانه الفرق بينهما ذلك التصوير الحكيم البين الواضح بان الأول لو ائتمن على قنطار من ذهب لأداه ،والثاني إن ائتمن على دينار لا يؤده إلا بالملازمة الدائمة ،والتتبع والإلحاف الشديد ،وعبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الملازمة بقوله تعالى:{ إلا ما دمت عليه قائما}أي إلا إذا استمررت مطالبا له مصمما على ان يؤدى مشرفا عليه في غدوه ورواحه .ودام معناها استمر ،وقائما معناها ملازما متتبعا ؛ذلك لن قام في استعمال القران الكريم لها تكون كما قال الراغب في مفرداته:"على أضرب ،قيام بالشخص إما بتسخير او اختيار ،وقيام للشئ وهو المراعاة للشئ ،والحفظ له ،وقيام هو بمعنى العزم على الشئ . .ومن المراعاة للشئ قوله تعالى:{ كونوا قوامين لله شهداء بالقسط . . .8}[ المائدة]وقوله تعالى:{ قائما بالقسط . . .18}[ آل عمران]وقوله تعالى:{ أفمن هو قائم على نفس بما كسبت . . .33}[ الرعد]وقوله تعالى:{ ليسوا سواء من اهل الكتاب امة قائمة . . .113}[ آل عمران]وقوله تعالى:{ إلا ما دمت عليه قائما}أي ثابتا على طلبه .
وغن هؤلاء الذين لا يؤدون الأمانة المادية إلا بهذه المطالبة الدائمة ،والملازمة المستمرة-هم الذين لا يتركون التضليل كما اشرنا ،فلا يأمن اهل الحق شرهم إلا برقابة مستمرة لمنع تضليلهم ،وفتنة الناس عن دينهم ،ثم هم يخونون العهود ،وطالما خانوا النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه مع المشركين ،حتى اضطر لإجلائهم عن المدينة وما حولها .
وإن هؤلاء يبررون خيانتهم للأمانة المادية بقولهم كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم:{ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} .
أي ذلك الامتناع عن وفاء الحق ،وأداء الأمانة والإذعان لبواعث الهداية الذي هو أداء الأمانة المعنوية سببه زعمهم الذي قالوه ،ونطقوا به وهو انهم ليس عليهم سبيل أي تبعة او ملام او عتاب في شان الأميين وأموالهم ،وهذا معنى قوله تعالى:{ ليس علينا في الأميين سبيل}فالأميون هم العرب ،وسموا أميين ؛لأنهم لم يكن عندهم علم ولا حضارة ،وكانت تغلب عليهم الأمية ،وهي الجهل بالكتابة والقراءة ،فكان هذا الإسم لهم لغلبة الأمية عليهم ؛ومعنى سبيل حجة ملزمة ؛لأن السبيل هو الطريق ،وهو يطلق بمعنى الحجة باعتبارها طريق الإلزام وتحمل التبعات ،وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الجملة السامية{ ليس علينا في الأميين سبيل}أي لا يتطرق علينا عتاب وذم في شأن الأميين ،يعنون الذين ليسوا من اهل الكتاب ،وما فعلنا بهم ما فعلنا من حبس أموالهم والإضرار بهم ؛إلا لأنهم ليسوا على ديننا ،وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ، ويقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة ،وقيل:"بايع اليهود رجالا من قريش ،فلما أسلموا تقاضوا قالوا ليس لكم علينا حق ،حيث تركتم دينكم".
وإن هذه أخلاق الذين يظنون في انفسهم العلو المطلق ،ويستخدمون ذلك الظن الباطل ،لأكل أموال الناس بالحق ،وليفسدوا في الأرض وهو ما عليه اهل أوروبا ؛يقومون بالحق في بلادهم ،ويثبتون دعائمه في عشائرهم لا يضيع عندهم حق ؛فإذا تجاوز الحق أقطارهم أنكروه ،ولم يذعنوا له ؛ وتقولوا الأقاويل وادعوا انه ليس للأمم المتخلفة في الحضارة حق كحق غيرها ،وانه ليس للملونين حق كحق غيرهم .
وإن هذا مبدأ اليهود ،وهم مغرقون فيه ،فقد كانت التوراة تحرم الربا تحريما مطلقا ،وكان النص فيه:لا تأخذ ربا من أخيك إذا أقرضته ،فزادوا كلمة أخيك الإسرائيلي لأنهم لا يشعرون بالأخوة الإنسانية في ذاتها .
وإن المبادئ الخلقية الفاضلة لا تعرف جنسا ولا لونا ولا ثقافة ؛ولذا قال تعالى ردا عليهم مبنيا كذبهم .
{ يقولون على الله الكذب وهم يعلمون}في هذه الجملة السامية رد عليهم بان ما قالوه من انه ليس عليهم في الأميين سبيل كلام لا أصل له في شرع سماوي فهو ليس دينا ،وإذا كانوا قد قالوه على الله تعالى فقد كذبوا على الله تعالى ،وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في قضية عامة تدل على ان من شانهم ان يقولوا الكذب على الله تعالى ،وهم يعلمون انه كذب فقد كذبوا فادعوا انهم أبناء الله وأحباؤه ،وكذبوا فادعوا ان إبراهيم كان يهوديا ،وكذبوا فادعوا انه لا نبي إلا من بني إسرائيل ،فكان الكذب على الله تعالى شانا من شئونهم ،ولذلك عبر بالمضارع ،أي ان شانهم ان يقولا الكذب على الله ،قالوه في الماضي ،ويقولونه في الحاضر ،وسيقولونه في المستقبل ،وذلك شان الذين يحتكرون لنفسهم حق التكلم في الدين ،ويحسبون غيرهم ليس من حقهم ان يتكلموا فيه .
وإن الأمانة كانت توجب عليهم الا يقولوا إلا الحق ،ولكنهم خانوها في الماديات ،وما ذلك إلا لأنهم فقدوها في المعنويات ،فكان هذا هو أساس ذلك الضلال البعيد ،ولقد روى سعيد بن جبير ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل الكتاب عندما نزل قوله تعالى عنهم:{ ليس علينا في الأميين سبيل}:قال عليه الصلاة والسلام:
"كذب أعداء الله ،ما من شئ في الجاهلية ،إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة ،فإنها مؤداة إلى البر والفاجر"{[517]} .
و يروى أن رجلا سأل ابن عباس ،فقال:( ( إنا نصيب فيالغزومن اموال أهل الذمة الدجاجة ، و الشاة ، فقال ابن عباس:فتقولون ماذا ؟ قال نقول:ليس علينا بذلك بأس . فقال حبر هذه الأمة:هذا كما قال أهل الكتاب:{ ليس علينا في الأميين سبيل} . إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ) ) .