مناسبة النزول:
قال صاحب مجمع البيان: عن ابن عباس قال: يعني بقوله: [ مَن إن تَأمَنهُ بِقِنطارٍ يُؤَدِّهِ إليكَ] عبد اللّه بن سلام أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدّاه إليه ،فمدحه اللّه سبحانه .ويعني بقوله: [ مَنْ إن تَأمَنهُ بِدينَارٍ لا يُؤدِّهِ إليكَ] فَنْحاص بن عازوراء ،وذلك أنَّ رجلاً من قريش استودعه ديناراً فخانه ،وفي بعض التفاسير أنَّ الذي يؤدّي الأمانة النصارى ،والذين لا يؤدّونها اليهود
في هذه الآيات تقرير عن مفهوم خاطئ يحمله أهل الكتاب عن طبيعة النظرة إلى أموال الآخرين من غيرهم من الشعوب في ما يضعونه عندهم من أمانات ،أو ما يقع تحت أيديهم من أموالهم ،وخلاصتها أنَّ اللّه قد رخص لهم في استحلال هذه الأموال لأنفسهم ،فيجوز لهم الامتناع عن إرجاع الودائع إلى أصحابها ،كما يجوز لهم أخذها غيلةً وسرقة وبغير ذلك من الأساليب ...وذلك انطلاقاً من المفهوم العامّ الذي يعيشونه في داخل أنفسهم من احتقار الأميين ،وهم العرب على تفسير ،أو غير اليهود على تفسير آخر ،ما يعني عدم احترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم ...وفي ضوء ذلك ،لا يمكن أن تأتمن أحداً منهم على شيء من مالك ،لأنَّ الائتمان يتحرّك من خلال المفهوم النفسي والروحي والأخلاقي الذي يعتبر الأمانة في داخل الذات في مركز القاعدة الروحيّة والأخلاقيّة التي تتفرع عنها الممارسات ،فإنَّ الأخلاق ليست عملاً طارئاً يُمارسه الإنسان في مظاهر معينة من أفعاله ،بل هو ملكة نفسية دافعة للعمل ،فإذا كانت القاعدة لديهم عدم احترام أموال الآخرين ،فكيف يمكن أن يتحقّق الائتمان بشكل طبيعي ؟!
ولكن ليس معنى ذلك أنَّ أهل الكتاب بأجمعهم هم من يخونون الأمانات ولا يؤدّونها ،بل ربَّما تجد بعض النماذج الأمينة من موقع تربيةٍ ذاتية معينة ،تغرس في داخله روح الأمانة بعيداً عن مفهوم الرخصة الدينيّة المتوهمة .فإذا ائتمنته على قنطاروهو المال الكثيرأداه إليك ،كما تجد النموذج الذي لا تستطيع أن تأتمنه على أيّ مال مهما كان قليلاً كالدينار ،لأنَّه سوف ينكره ولا يؤدّيه إلاَّ إذا كنت قائماً عليه ،بكلّ ما تملكه من أساليب الضغط والمقاومة والمحافظة على المال .فإنَّ مثل هذا النموذج لا يشعر بعقدة الذنب في ممارسته هذه ،لاعتقاده بأنَّ ذلك حقٌّ له وحلالٌ عليه ،ولكنَّ اللّه سبحانه ينكر عليهم هذا الزعم وهذه الرخصة ،لأنَّه سبحانه يعتبر الأمانة عهداً بين الأمين وصاحب الأمانة ،وبذلك يكون استحلالها خيانة لها واللّه لا يُحبُّ الخائنين ،فكيف إذا جمعوا في أنفسهم الخيانة والكذب على اللّه في ما ينسبونه إليه من قولٍ باطل يعلمون بطلانه .إنَّ اللّه لا يُحبُّ هؤلاء ،بل إنَّه يُحبُّ المتَّقين الذين يعتبرون العهد مسؤولية في أيّ جانب من جوانب الحياة ،سواء كان ذلك في المال أو في الشؤون الأخرى الحياتية ،فيرون الوفاء بعهده جزءاً من مسؤوليتهم تجاهه وتجاه النّاس من خلال ما يكلّفهم به من شؤون النّاس .
وذلك هو الأساس في حبّ اللّه لعباده ،في ما ينطلقون فيه من أعمال ،وما ينطلقون منه من ملكة التَّقوى في ما يريد وما لا يريد ،وتلك هي قصّة الأمانة في التشريع الديني ،أيّ تشريع كان ،فإنَّ اللّه لم يبعث نبيّاً إلاَّ بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر .حتّى الكافر الذي يحل لك قتاله لكفره وعدوانه ،لا يحل لك خيانة أمانته .وقد ورد في حديث الإمام جعفر الصادق ( ع ): «ثلاثة لا عُذر لأحدٍ فيها: أداء الأمانة إلى البر والفاجر ،والوفاء بالعهد للبر والفاجر ،وبرّ الوالدين برين كانا أو فاجرين » .
الأمانة التزام ذاتي داخلي:
[ ومِن أهلِ الكتابِ من إن تأمنهُ بقنطارٍ يُؤدِّه إليكَ] من خلال التزام ديني لا علاقة له بالخطّ الديني الذي ينتمي إليه ،بل قد تكون المسألة ناشئة من بعض المؤثرات البيئية الاجتماعية التي قد تُربي الإنسان على بعض المفاهيم الإيجابية في قضايا الأمانة المالية ،بحيثُ تتحوّل القضية لديه إلى ما يُشبه الخلق الراسخ في شخصيته .وقد تكون ناشئة من مصلحة اقتصادية في الحركة التجارية العامّة ،باعتبار أنَّ الإنسان الأمين في معاملته مع الآخرين يحصل على الثقة العامّة في الوسط الاقتصادي ،الأمر الذي يمنحه أكثر من فرصة للحصول على الأرباح من خلال المبادرات التي يقدّمها إليه الآخرون من أصحاب رؤوس الأموال في استثمار أموالهم عنده ،وفي الدخول معه في شركةٍ تجارية أو غيرها .
[ ومنهُم من إن تأمَنهُ بدينَارٍ لا يُؤدِّه إليكَ] إذا طالبته به ،لأنَّه لا يملك أيّ التزام نفسي في موضوع الأمانة ،فليست القضية لديه قضية مصلحة اجتماعيّة تتصل بمصالحه ليلتزم على أساس ذلك ،بل القضية قضية عقدة ذاتية تدفعه للخيانة الصغيرة والكبيرة ،ليحصل على بعض المكاسب المادية من خلال ذلك ،مستغلاً غفلة الآخرين عنه وثقتهم به ؛ولذا فإنَّه يبقى في عملية انتهاز للفرص السانحة ،فلا يمتنع عن الخيانة لك [ إلاَّ ما دُمتَ عليهِ قائماً] بحيثُ تُلازمه وتُراقبه وتتقاضاه وتلحّ عليه ،فلا تترك له أيّة فرصة للهروب أو للإنكار ،بل يبقى في حصارك الذي يطبق عليه من خلال شهادة النّاس من حوله أو نحو ذلك ،[ ذلك بأنَّهُم قالوا ليس علينا في الأميين] وهم غير اليهود ،[ سَبِيل] أي مسؤولية دينية في أخذها عدواناً وخيانة ،لأنَّ القانون الديني لم يجعله اللّه ليقيّد اليهود في التزاماتهم ومعاملاتهم مع غيرهم ،فقد أباح اللّه لهم أموال الآخرين ممن لا يُدينون بدينهم ،فهم الشعب المختار للّه الذي جعل الدُّنيا امتيازاً لهم ،وأراد للنّاس أن يكونوا خدماً لهم في مواقع الاستغلال المشؤوم .فلهم الحرية في تصرّفاتهم بأن يأخذوا ما يريدون ويدعوا ما لا يريدونه تبعاً لمصالحهم الذاتية بعيداً عن مسألة القيم الأخلاقية ،لأنَّها لا تحكمهم في علاقاتهم بغير اليهود ،بل تحكمهم في المجتمع اليهودي في الداخل .
[ ويقُولُونَ على اللّهِ الكَذِبَ] في نسبتهم له هذا التشريع الظالم وهذه الإباحة للخيانة المالية للآخرين [ وهم يعلَمُون] أنَّ اللّه أمرهم بأن يكونوا مثال الأمانة مع النّاس كلّهم ،لأنَّ القيمة الأخلاقية لا تتجزأ لتكون إيجابية مع جماعة من النّاس وسلبيةً مع جماعة أخرى ،لأنَّ علاقتها إنَّما هي بذات الإنسان في التزاماته الأخلاقية في نفسه بقطع النظر عن العناوين الأخرى المتصلة بالنّاس ؛فاللّه أراد للإنسان أن يكون صادقاً ،لأنَّه أراد له الارتباط بالحقّ ،فليس له أن يكذب على الكافرين ،كما لا يجوز له الكذب على المؤمنين .