[ بَلَى] إنَّهم يتحمّلون المسؤولية كاملة في الالتزام بالوفاء للآخرين بأداء الأمانة ،ولا يملكون الحجّة في الخيانة بحجّة شرعته كما يقولون .[ من أوفَى بعَهدِهِ] أي أنَّ الإنسان الذي وفى بِعهدِهِ من خلال مراقبته للّه [ واتَّقَى] اللّه في أموره كلّها ،بحيثُ كان يعيش الإحساس بالرقابة الإلهية الضاغطة على قراراته وحركاته ،هو الذي يحصل على محبة اللّه ورضوانه ،[ فإنَّ اللّهَ يُحبُّ المُتَّقينَ] الذين يتحرّكون في الحياة على أساس أنَّهم عباد اللّه ،الذين يلتزمون أوامره ونواهيه ،ويخشون عقابه ،ويرجون ثوابه ،ولذلك كانت التَّقوى في التزاماتها الروحية والعملية هي مضمون حياتهم .
* * *
الآيات في خطى الحاضر:
ولا بُدَّ لنا في هذه الآيات من أن نقف وقفةً قصيرة أمام المفهوم الذي نستوحيه منها:
أولاً: وهو أنَّ الثقة بالإنسان ،أيّ إنسان كان ،لا بُدَّ من أن تستند إلى القاعدة الفكريّة والروحيّة والأخلاقيّة الموجودة في نفسه ،لأنَّ الإنسان ليس هو ما يتحرّك فيه من أعمال ،بل هو ما ينطلق منه من منطلقات ،لأنَّها هي التي تكوّن الدوافع القويّة الضاغطة بشكلٍ شعوري أو غير شعوري عليه ؛فعلينا أن ندرس منطلقات كلّ إنسانٍ قبل أن نتعامل معه ،أو نتعاهد معه ،أو نأتمنه على مال أو نفس أو عرض أو قضية من قضايا الحياة العامّة والخاصّة ،لأنَّ العهد لا يمثِّل شيئاً لدى الذين لا يرون الوفاء بالعهد مع بعض النّاس قيمةً أخلاقية مهمّة ،ما يجعل من التعاهد لديهم أسلوباً من أساليب استغفال البسطاء والوصول إلى استغلالهم من خلال الثقة الساذجة .
وهذا هو الأساس في ما يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع الأفراد والدول والشعوب ،لئلا يقعوا تحت تأثير القيم التي يؤمنون بها بحجّة أنَّ الآخرين لا يمكن أن ينفصلوا عنها .فقد لا يؤمن الآخرون بشيء ،ولكنَّهم يرفعون شعاره ،ليكون ذلك هو الطعم الذي يصطادون به الشعوب الضعيفة الفقيرة ؛كما نجده في الدول الكبرى التي تعتبر المعاهدات وسيلة لاستغلال الدول الصغرى ،لتحصل على ما تريده من ثرواتٍ ومواقف ،ثُمَّ عندما يأتي وقت الوفاء بالتزاماتها الذاتية تجاه تلك الدول الصغيرة ،تبدأ في خلق المشاكل والمعوّقات والأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة الاستثنائية التي تجعلها في حِلٍّ من الوفاء .إنَّ هذه الآيات تتحرّك في خطّ التوعية التي تفتح عيون المؤمنين على الحياة ،ليكونوا في موقع القوّة من الوعي ،ولا يكونوا في موقف الضعف من الغفلة .
ثانياً: ربَّما نستوحي من تنديد اللّه باليهود في نظرتهم إلى الآخرين وعدم مسؤوليتهم عن أموال الآخرين ،فلهم أخذها من دون مقابل ،أنَّ اللّه سبحانه لا يُريد للمسلمين أن يأخذوا بهذه النظرة في تعاملهم مع غير المسلمين ،فيحللوا لأنفسهم مصادرة أموالهم وسرقتها بحجّة عدم احترام الكافر ،من حيثُ المبدأ ،في نفسه وماله ،إلاَّ أن يكون ذمياً أو معاهداً ،بلحاظ قانون الذمة والعهد ،وهذا ما درج عليه بعض الفقهاء الذين لا يرون العنوان الحربي أساساً لحلية أموال الكافرين للمسلمين ،بل يرون الأصل عدم الاحترام إلاَّ في صورة الذمة والعهد ،أخذاً ببعض الإطلاقات المتضمنة قوله ( ص ): «من قال لا إله إلاَّ اللّه محمَّد رسول اللّه ،حقن بها ماله ودمه وعرضه » ،وأمثال ذلك من الأحاديث التي تربط الاحترام بالإسلام ،ما يجعل الكافر ممن لا حرمة له لكفره ،ولكنَّنا ذكرنا في أبحاثنا أنَّ هذه الإطلاقات ليست واردة في مقام البيان من هذه الجهة ليؤخذ بمضمونها الإطلاقي ،بل هي واردة في مقام بيان إهدار الإسلام مال الكافر ونفسه وعرضه بالحرب عن طريق الغنائم التي يحصل عليها المسلمون من الأموال المنقولة وغير المنقولة ،وعن طريق الأسر والاسترقاق ،أو القتل في حالة الحرب وفي الجرائم التي تتصل بها ...فإذا نطق الكافر بالشهادتين فليس للمسلمين سبيل عليه في نفسه وماله وعرضه ،فالقضيةحسب فهمناتتحرّك في دائرة إعلان الحرب عليهم في حالة البقاء على الكفر ،وترك إعلانها ضدّهم في صورة الإسلام ،وربَّما يتأيد هذا الرأي في قوله تعالى: [ لا ينهاكُمُ اللّهُ عَنِ الذينَ لَم يُقاتِلُوكُم في الدِّينِ وَلَم يُخرجوكُم من ديارِكُم أن تَبرُّوهُم وتُقسِطوا إليهم إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المقسِطِينَ * إنَّما ينهاكُمُ اللّهُ عن الذينَ قاتلُوكُم في الدِّين وأخرجُوكُم من ديارِكُم وَظَاهَروا على إخراجِكُم أن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فأولئكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] ( الممتحنة:89 ) ؛فإنَّ الظاهر من هاتين الآيتين أنَّ الكافر الذي لم يُعلن القتال على المسلمين ولم يُخرجهم من ديارهم ،بل كان موقفه موقف اللاحرب في خطّ السَّلام الطبيعي الذي يعيشه النّاس مع بعضهم البعضمن دون معاهدة أو ذمة بالمعنى المصطلح العقدي للمسألةيستحق التعامل معه بالبرّ في تقديم الخير له بكلّ ألوانه ،وبالعدلبمفهومه العامالذي يقتضي أنَّ له الحقّ في ذلك ،باحترام ماله ونفسه وعرضه وعدم الاعتداء عليه إلاَّ بالحقّ ،ومقتضى ذلك أنَّ الكفر لا يُساوي عدم الاحترام ،بل الحرب بمضمونها المباشر وغير المباشر هي التي تقتضي ذلك .
وهذه الآية تحمل الكثير من الإيحاء بأنَّ الخلاف في الدِّين لا يُبرربمجردهإهدار حرمة الآخرين ،فإنَّ اللّه ذمّ اليهود على ذلك ،وربَّما يرى بعض الفقهاء أنَّ الآية لا تدل على أكثر من وجوب أداء الأمانة لا وجوب احترام المال ،ونحن نرى للأمانة خصوصية في المسألة ،لأنَّها تتضمن التزاماً عقدياً من الشخص المؤتمن بأنَّ الأمانة إلى من ائتمنه عليه من خلال مبدأ الوفاء بالالتزام العقدي مع الآخر ،ولهذا فإنّا لا نجد علاقة بين موضوع الآية وإهدار احترام مال الكافر .
والجواب عن ذلك أنَّ الأمانة لم تذكر موضوعاً في الآية بلحاظ خصوصيتها العقدية ،وإنَّما لوحظتفي سلوك اليهودمن حيثُ إنَّهم لا يحترمون أموال غير اليهود ،بقرينة قوله تعالى: [ ذلِكَ بأنهم قالوا ليسَ علينا في الأميين سَبيلٌ] ،فهم يخونون الأمانة على أساس عدم احترامهم أموال الآخرين لا على أساس أنَّهم لا يقومون بالوفاء بالتزاماتهم العقدية ،فإذا قام المسلمون بمثل ذلك في سلوكهم استحقوا الذمّ على ذلك .وربَّما نُلاحظفي هذا المجالأنَّ هناك عقداً إنسانياً بين العقلاء يلتزمونه في سلوكهم الاجتماعي وسيرتهم العملية أن لا يأخذ الإنسان مال غيره بدون حقّ ،لأنَّ مبدأ احترام الأموال لديهم من أكثر الالتزامات قوّة وقداسةً وتأثيراً في العلاقات العامّة ،ولذلك نراهم يذمون الذين يأكلون أموال النّاس بالباطل ،ويُعاقبون اللصوص ،ولا يخرجون عن ذلك إلاَّ في حالة الحرب من دون فرقٍ بين النّاس الذين يدينون بدين واحد أو بأكثر من دين .
ثالثاً: إنَّ هذه النظرة الفوقية الاستعلائية التي يُمارسها اليهود على غيرهم من النّاس قد أصبحت تتحرّك في نظرة الاستكبار العالمي الذي تمثِّله دول الغرب إلى العالم الثالث ،وهو عالم المستضعفين الذي يضمّ الدول العربية والإسلامية وغيرها ،فهي لا تنظر إليها نظرة إنسانية تحفظ لها حقوقها في ثرواتها الطبيعية ،وفي حريتها في تقرير مصيرها ،وفي استقلالها السياسي ،ونحو ذلك ...بل تُحاول أن تفرض عليها نظامها العالمي الذي يملك السيطرة على مقدرات الشعوب ،وتعمل على أن تجعل لنفسها الحقّ في ما لا تجعله لها .فهي في الوقت الذي تتحدّث فيه عن حقوق الإنسان ،لا تحترم إنسانية المستضعفين في ذلك ،بل تحترم مصالحها في الدول التي تُطالب فيها بتطبيق هذه الحقوق بما ينسجم مع مصالحها ،ولا ترى لهذه الشعوب الحقّ في أن تُطالب لنفسها بتلك المطالب بعيداً عن المصالح الاستكبارية .وهذا ما ينبغي للمسلمين والمستضعفين في العالم أن يدرسوه ويفهموه ويتعرّفوا على خصائصه وعناصره ،من أجل حماية أنفسهم من أخطاره وخططه ،والحصول على المكاسب الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة والثقافيّة في حركتهم الواعية القوية المتمرّدة على منطق الاستكبار في واقع المستضعفين في الأرض .
رابعاً: إنَّ الآية تؤكّد على أنَّ الوفاء بالعهود والالتزام بالتَّقوى هما اللذان يُمكن لهما أن يؤكّدا ثبات المصلحة الإنسانية في حركة الإنسان في الواقع ،ولذلك يحصل السائرون في اتجاههما على محبة اللّه ،لأنَّ اللّه يُحبُّ النّاس الذين يُحبُّون إخوانهم ويُحبُّون الحياة باسم اللّه .وهذا ما يوحي بشمولية القيمة الإيجابية في شخصية الإنسان المسلم ،الذي ينظر إلى النّاس بعين واحدة بعيداً عن الازدواجية والاهتزاز ،فإذا دخل المسلمون في معاهدة مع الآخرين ،فإنَّ الآخرين يشعرون بالأمن في علاقاتهم بالمسلمين ،ويضمنون لأنفسهم الثبات في المواقع التي تثبتها هذه المعاهدة .