{ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن وكانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها او دين آباءكم وأبناءكم لا تذرون أيهم اقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما11 * ولكم نصف ما ترك أزواجكم عن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها او دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها او دين وإن كان رجل يورث كلالة او امرأة وله أخ او أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها او دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم12 تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم13 ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين14}
قد بين الله سبحانه وتعالى الواجب بالنسبة لليتامى ورعاية حقوقهم ، في الموال التي يرثونها ، والأموال التي تئول إليهم . كما بين سبحانه حق الفقراء والمساكين وذوي القرابة الذين لا ميراث لهم عند تقسيم التركات . وفي هذه الآية يبين حقوق أكثر الوارثين ، وهي تقسيم الله سبحانه وتعالى .
إن الميراث قد تولى القرآن بيان أكثر أحكامه ، ولم يفصل أحكاما كما فصل أحكام الميراث ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"العلم ثلاثة:آية محكمة ، او سنة قائمة ، او فريضة عادلة"{[676]} . وقد عده نصف العلم ، وهذا العدد دليل على مقدار وجوب العناية به ، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنه نصف العلم ، وهو اول شيء ينسى ، وأول شيء ينتزع من أمتي"{[677]} .
والميراث هو وصية الله تعالى بتوزيع التركات على مستحقيها ؛ فإنه إذا كان للعبد وصايا في أمواله من بعد وفاته ، فالميراث هو وصيته سبحانه وتعالى ووصية الله تعالى أولى بالإيجاب وأحق بالتنفيذ . ولكي تكون وصية الله تعالى لها مكانتها فإنه قد جعل لها الثلثين ، ولوصية صاحب المال الثلث ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى قد تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث أموالكم فضعوه حيث شئتم". وقد أراد بعض الصحابة ان يوصي بماله كله ، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أراد أن يوصي بالثلث فأجازه ، وقال:"والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من ان تدعهم عالة يتكففون الناس"، او كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذه الآيات كما قلنا بيان حقوق طائفة من الوارثين ، وهم الأولاد والآباء ، والزواج وأولاد الأم ، وقد مزج بين الآباء والأولاد في الحقوق ؛ لأن الأولاد لا يحجبون الآباء أي لا يمنعونهم من الميراث ، ولذلك يعدون طبقة واحدة ، وقد قال تعالى في ذلك:
{ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} هذا النص الكريم يبين ميراث الأولاد ، وقد ذكر لهم ثلاث أحوال:الحال الأولى إذا كانوا ذكورا وإناثا فإن الميراث بينهم يكون للذكر مثل حظ الأنثيين ، والحظ هنا النصيب ، والتعبير بالحظ إشارة إلى ان عطاء الأنثى ، ولو كان نصف عطاء الرجل ، قدر كبير لها فيه حظ ، أي عطاء فيه كرم وسخاء ؛ لأن التكليفات المالية عليها دون التكليفات المالية على الرجل بقدر كبير يعد أكثر من النصف .
الحال الثانية:ان الأولاد إن كن نساء فقط ، يكون نصيبهن الثلثين ،والنص الكريم يقول:{ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} يفيد بيان نصيب الأكثر من اثنتين ، ولم يبين الأنثيين ، ولكن يفهم من آية أخرى ان نصيب الثنتين هو الثلثان أيضا ؛ لن الله تعالى قال في توريث الإخوة والأخوات:
{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك وليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك . . .176} [ النساء] .
ففي الأخوات نص على ان نصيب الأختين الثلثان ، وبالأولى يكون نصيب البنتين الثلثين ؛ لأن البنتين أقوى قرابة وأكثر اتصالا ، وأجدر بالرعاية ، فإذا كانت الأختان تأخذان الثلثين فأولى ان تأخذ البنتان الثلثين ، فما حذف في آية البنات وجد ما يدل عليه في آية الأخوات . وكذلك حذف في آية الأخوات نصيب الأكثر من أختين ، وصرح به في آية البنات ، ففهم بطريق الأولى ان الأكثر من أختين تأخذان الثلثين ؛ لأنه إذا كان الأكثر من بنتين يأخذ الثلثين فقط ، فأولى ان يأخذ الأكثر من أختين الثلثين . والمعنى انه حذف من آية البنات ما يفهم بالأولى من آية الأخوات ، وحذف من آية الأخوات ما يفهم بالأولى من آية البنات ، وذلك بلاغة الإيجاز ، وهو من سر الأعجاز .
الحال الثالثة:ان يترك الشخص بنتا واحدة ، وهي في هذه الحال تستحق النصف بصريح الآية:{ وإن كانت واحدة فلها النصف} .
هذا توريث الولاد ، ويلاحظ ما يأتي:
أولا:ان نصيب الأولاد إذا كانوا ذكورا وإناثا يكون بعد ان يأخذ الأبوان والأجداد والجدات واحد الزوجين أنصبتهم . فإذا كان للمتوفى أب وزوجة وأبناء وبنات ، فإن القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين تكون بعد اخذ الأب والزوجة نصيبهما .
ثانيا:ان الأولاد يطلقون على كل فروع الشخص من صلبه ، أي أبناؤه وأبناء أبنائه ، وبنات أبنائه . اما بنات بناته ، فإنهم لا يكن من أولاده . وقد خالف في ذلك الشيعة فلم يفرقوا في نسبة الأولاد بين من يكون من أولاد الظهور ومن يكون من أولاد البطون ، أي لا يفرقون بين من تتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ومن لا تتوسط .
ثالثها:ان أبناء الشخص وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات ابنه ، أي ان الطبقة الأولى تمنع من يليها .
رابها:إن بنات الابن يأخذن حكم البنات تماما إذا لم يكن للشخص أولادا قط ، لا ذكورا ولا إناثا ، بل إن جمهور الفقهاء يجعل لبنات الابن السدس ، وإذا كان للمتوفى بنت واحدة تأخذ النصف ، وذلك لحديث ابن مسعود الذي سئل فيه عن رجل توفى عن بنته وبنت ابن ابنه وأخته . . .فأعطى البنت النصف ، وبنت الابن السدس ، والأخت الباقي ، وقال:ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم{[678]} .
{ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس} هذا ميراث الأبوين ، وقد ذكر القرآن الكريم حالا يشترك فيها الأب والأم ، وهي ان يأخذ كل واحد منهما السدس إذا كان للمتوفى ولد . والمراد من الولد الفرع الذي لا يتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ، وذلك عند الجمهور ، وعند الشيعة الإمامية:كل من يتصل إلى الميت من الفروع بطريق الإناث او الذكور فهو ولد .
و الأب قد يأخذ مع السدس باقي التركة إذا كان للمتوفى فروع من الإناث فقط ، فإنه عند الجمهور يأخذ السدس مع الباقي ، والباقي ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما بقي بعد أصحاب الفروض فلأقرب رجل ذكر"{[679]} فبهذا الحديث يأخذ الباقي ، وبنص الآية يأخذ السدس .
وحالا ثانية ذكرها للأم صراحة ، وللأب ضمنا ، فقال سبحانه:{ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} فإن هذا النص يفيد أمرين:أحدهما – أن الميراث للأبوين إن لم يكن أولاد ، وثانيهما – أنه يكون للأم الثلث ، ومادام الميراث منحصرا في الأبوين ؛ فإنه يكون للأم الثلث والباقي للأب .
وإذا كان معهما زوج أو زوجة ، فهل الآية تفيد الحكم ؟ ونقول إنها لا تفيده صراحة ، بل تفيده ضمنا ، وذلك انها قررت انه في حال انحصار الإرث في الأبوين يكون نصيب الأم الثلث ، ونصيب الأب الثلثين فهذه الآية قد حددت النسبة ، أي أن نصيب الأم يكون على النصف من نصيب الأب ، وبتطبيق ذلك على حال وجود أحد الزوجين ، فإن أحدهما يأخذ فرضه وتأخذ الأم ثلث الباقي ، ويأخذ الأب ثلثيه ، وهذا رأي ابن مسعود وزيد ، وعلى ، على أرجح الروايتين عنه ، وعمر وعثمان ، وهو الذي اختاره الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الأمصار .
وهناك رأيان آخران:أحدهما- أنها تأخذ ثلث التركة كلها ، وقد أخذ هذا القول من صريح الآية ، وهو يؤدي إلى ألا يكون نصيب الأم ، كأن يكون زوج وأم و أب ، فإن الزوج يأخذ النصف والأم تأخذ الثلث ، والأب يأخذ الباقي وهو السدس ، أي أن الأب يأخذ نصف نصيب الأم ، وهذا الرأي رأي الإمامية ، وفيه شذوذ كما ترى ، وقد نسب إلى ابن عباس ، وقيل إنه روى عن علي ومعاذ بن جبل . والثاني – أنها تأخذ ثلث الكل في حال ما إذا كانت زوجة وأب وأم ، وتأخذ ثلث الباقي إذا كانت المسألة فيها زوج بدل الزوجة ، وذلك لا يأخذ الأب أقل من الأم . وأسلم الآراء أولها ، وهو أوضحها وأعدلها .
وحالا ثالثة بالنسبة للأم أنها تأخذ السدس إذا كان هناك إخوة أو أخوات زادوا على واحد ، فإنها تأخذ السدس ، وهذه الحال خاصة بالأم ؛ لأن الأب لا يؤثر في نصيبه على الإخوة والأخوات ، بل إنهم لا يرثون معه .
هذا ميراث الأولاد والأبوين ، وقد بين – سبحانه وتعالى – حكمة ذلك وأكد تقسيمه بقوله سبحانه:
{ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} يبين الله أن هذه قسمته ، ولا يصح أن تحكموا أهواءكم في أموالكم بعد وفاتكم ، فإنكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ، آباؤكم أو أبناؤكم ؛ لأنه عند حكم الهوى يفقد العقل تقديره ميزانه فلا يدري أين يكون النفع ، وقد صدر الآية بذكر الآباء والأبناء لقوة قرابتهم واتحاد اتصالهم ، ومع ذلك لا يعلمون النافع منهم . وقد أكد الله معنى هذا التقسيم بتأكيدين:أحدهما – قوله سبحانه{ فريضة من الله} أي فرض الله ذلك فريضة وقدره تقديرا فلا يجوز خلافه ، لأنه تقدير الله وقسمته ، وليس لأحد أن يخالف قسمة الله جلت قدرته – التأكيد الثاني:قوله سبحانه:{ إن الله كان عليما حكيما} .فإن الله تعالى ذيل النص الكريم بهذه الآية تأكيدا للنفع في هذا التقسيم ؛ لأن الله الذي قسم القسمة العادلة ، وهو كان دائما عليما حكيما ، يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، وهو يدبر الأمر على مقتضى هذا العلم ، وبحكمته سبحانه ، وهو العزيز الحكيم .