بعد أن ذكر حكم الميراث مجملا ،بين في هذه الآية والتي بعدها والأخرى التي في آخر السورة{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة ...} أحكام الميراث الكبرى ،وبقي هناك بعض الفرائض تكفّلت بها السنَّة واجتهاد الأئمة .
كانت أسباب الميراث في الجاهلية ثلاثة:
( 1 ) النسب: وهو ألا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو ،وليس للمرأة والأطفال ميراث .
( 2 ) التبني: كان الرجل يتبنى ولدا من الأولاد فيكون له الميراث كاملا .
( 3 ) الحلف والعهد: فقد كان الرجل يحالف رجلاً آخر ويقول له: دمي دمُك ،وهدمي هدمك ،وترثني ،وأرثك ،وتُطلب بي وأُطلب بك .فإذا فعلا ذلك يرث الحي منهم الميت .ومعنى هدْمي هدْمك ( يجوز فتح الدال ): إن طُلب دمك فقد طلب دمي .
فلما جاء الإسلام أقرّ الأول والثالث فقط ،وجعل الميراث للصغير والكبير على حد سواء ،وورّث المرأة .وقد أقر الثالث بقوله تعالى:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} ،كما أبطل التبني بحكم{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} .
فنظام الميراث الذي بينه القرآن نظام عادل معقول ،اعترف بذلك عظماء علماء القانون في أوروبا .وقد اتبع فيه الإسلام النظم الآتية:
جعل التوريث بتنظيم الشارع لا بإرادة المالك .وجعل للمالك حرية الوصية من ثلث ماله ،وفي ذلك عدالة عظمى ،وتوزيع مستقيم .
جعل للشارع توزيع بقية الثلثين للأقرب فالأقرب ،من غير تفرقةٍ بين صغير وكبير ،فكان الأولاد أكثر حظاً من غيرهم في الميراث ،لأنهم امتداد لشخص المالك .ويشاركهم في ذلك الأبوان والجدة والجد ،لكن نصيبهم أقل من الأولاد .وذلك لأن الأولاد محتاجون أكثر من الأبوين والجدّين ..فهم مقبلون على الحياة ،فيما الآباء و الأجداد مدْبرون عنها .وتلك حكمة بالغة .
جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل ،ليحفظ التوازن بين أعباء الرجل وأعباء الأنثى في التكوين العائلي .فالرجل يتزوج امرأة ويكلَّف بإعالتها هي وأبنائها منه ،كما أنه مكلف أيضا بإخوانه ووالدته وغيرهما من الأرحام .
أما المرأة فإنها تقوم بنفسها فقط .والقاعدة تقول: «الغُنم بالغرم » ،ومن ثم يبدو التناسق في التكوين العائلي والتوزيع الحكيم في النظام الإسلامي .
يتجه الشرع الإسلامي في توزيعه للتركة إلى التوزيع دون التجميع ،فهو لم يجعلها للولد البكر كما في النظام الانجليزي ،ولا من نصيب الأولاد دون البنات ،ولم يحرم أحداً من الأقارب ،فالميراث في الإسلام يمتد إلى ما يقارب القبيلة .وقاعدته: الأقربُ فالأقرب .وقد كرّم المرأة فورّثها وحفظ حقوقها .ثم إنه لم يمنع قرابة المرأة من الميراث ،بل ورّث القرابة التي يكون من جانبها ،كما ورث التي تكون من جانب الأب ،فالإخوة والأخوات لأمٍ يأخذون عندما يأخذ الأشقاء .وفي بعض الحالات يأخذ أولاد الأخ ويأخذ الإخوة والأخوات .
وهذا تكريم للأمومة لا شك فيه واعتراف بقرابتها .
التفسير:
{يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ ... الآية} يأمركم الله تعالى في شأن توريث أولادكم أن يكون: للذَّكر مثلُ حظ الأنثَيين .وإذا كان المولود أنثى واحدة فنصيبها النصف ،والباقي لأقارب المتوفى ،وإذا انعدم الأقارب رُدَّت التركة إلى بيت المسلمين .
وإذا كانت الوارثات بنتَين فأكثر فمن حقهن أن يأخذن ثلثي التركة ،ويكون الباقي للأقارب أو بيت المال .ولا يرث الكافر ،ولا القاتل عمدا ،ولا العبد الرقيق .
وعند الشيعة الأمامية: تأخذ البنت أو البنتان فأكثر جميع التركة ،ونصيب كل من الأبوين السدس إذا كان الميت له ولد .وإذا كان لم يخلّف الميت أولادا وورثه أبواه أخذت الأم الثلث وكان الباقي للأب .
وإذا مات الميت وترك أباً وأماً وعددا من الإخوة فلأُمه السدس والباقي للأب ،إذ أن الإخوة يحجبون الأم وينقصون ميراثها ولا يرثون .وقال ابن عباس: يأخذون السدس ،ولكن هذا مخالف للجمهور .
وكل هذه القسمة من بعد تنفيذ الوصية إذا أوصى الفقيد ،ومن بعد سداد الدَّين إذا وُجد ،والدَّين مقدَّم على الوصية بإجماع العلماء .
هذه فريضة من الله يجب إتباعها ،أما أنتم فلا تدرون أي الفريقين أقرب لكم نفعاً: آباؤكم أو أبناؤكم ،فلا تجرموا أحدا ممن له نصيب من التركة .فالله هو العليم بمصالحكم الحكيم فيما فرض عليكم .
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي «فلإمه » بكسر الهمزة .وهي الآن لغة بعض البلاد الشامية .
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر «يوصى » بفتح الصاد .