{ والتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا15 واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما16 إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما17 وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر احدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما18}
ابتدأت سورة النساء ببيان العلاقة الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض ، وتثبت ان الناس جميعا امة واحدة بحكم الخلق والتكوين ، وكان ذلك هو الذي ينبغي ، ولكنهم اختلفوا من بعد . وبعد الإشارة إلى هذا المعنى الإنساني الجامع ، بين – سبحانه – حق الضعفاء على المجموع ، ثم اخذ يبين سبحانه حقهم في الأسرة ، ووجوب رعايتهم .
وفي هذه الآيات التي نتلوها ، يتجه النص الكريم على إقامة دعائم الأسرة ، التي هي خلية التكوين الإنساني ، وخلية البناء الاجتماعي ، والمهد الذي يتربى فيه .
النوع تربية يكون بها الإلف والائتلاف مع المجتمع الذي ينشأ فيه . وقد ابتدأ بإبعاد ما من شانه إفساد بناء الأسرة ، وهو الفاحشة ، فغن مثل من يبنى الأسرة كمثل من يبني قصرا مشيدا ، ينقى اولا مواد البناء من العناصر التي لا تجعله قويا متماسكا ، او تكون مواد تنقص بناءه ، ولذا قال سبحانه وتعالى:
{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} فحش معناها زاد ، وأطلق على الزيادة التي لا تسر ، وأطلق على القبيح من الأفعال ؛ لأنه انحراف عن الفطرة . وقد جاء في مفردات الراغب:"إن الله لا يأمر بالفحشاء28}[ الأعراف] .
{ وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي90}[ النحل] .{ من يأت منكن بفاحشة مبينة30}[ الأحزاب]{ إنما حرم ربي الفواحش33} [ الأعراف]{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة19}[ النساء] كناية عن الزنا ، وكذلك قوله تعالى:{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم15} .
فالفاحشة هنا هي الزنا ، والله سبحانه وتعالى يعبر عن هذه المعاني التي لا تألفها النفس الكريمة بعبارات تسترها ، فتكون الكناية بدل التصريح ، وذلك من تأديب الله لنا في التعبير .
وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج النساء اللائي وقعن في ذلك الأمر المنكر ، وقد سماه بهذا الاسم كما سماه بأنه"إد"{[680]} ، فكان علاجهن بأمرين احدهما –يختص بهن ، والثاني – يشتركن مع الرجال فيه ، فأما الذي يختص بهن فهو إمساكهن في البيوت ، وليس الإمساك معناه الحبس والتضييق المجرد ، بل الإمساك معناه الحفظ والصيانة والرعاية ، ويتضمن ذلك معنى الإرشاد والتوجيه والوعظ ، ولذا قال الراغب:إمساك الشيء التعلق به وحفظه ، قال تعالى:{ فإمساك بمعروف او تسريح بإحسان . . .229}[ البقرة] وقال:{ ويمسك السماء ان تقع على الأرض . . .65}[ الحج] أي يحفظها . فمعنى الإمساك في البيوت الحفظ فيها والرعاية والتهذيب بعطف ؛ وذلك لن المرأة تزل إذا فقدت التهذيب ، وحرمت من الصيانة فتنطلق غير مقيدة . إذا لم يكن لها هاد مرشد وإذا كان ذلك سبب الزلل ، فعلاج الانحراف بالإمساك في البيوت مع الحفظ والرعاية . ويستمر الإمساك حتى الوفاة ، او حتى الزواج ، كما قال:{ فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا} ، أي طريقا واضحا لمنع الزلل والابتعاد عنه ، وذلك بتحصين نفسها بالزواج .
والرمي بالزنا أفحش ما ترمي به المراة والرجل ، وكثيرات من النساء يكن فريسة لشائعات كاذبة ، ولذلك شدد الله تعالى في إثبات الزنا أبلغ ما يكون التشديد ، فقرر ان يكون بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل في ذلك شهادة النساء ، وقرر ان تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع ، ولذا قال:{ فإن شهدوا} أي إن ذكروا انهم عاينوا وشهدوا{ فأمسكوهن في البيوت} ؛ ولحماية الشارع لعرض المرأة من ان يكون مضغة في الأفواه – قرر عقوبة شديدة لمن يرمي النساء والرجال من غير ان يكون أربعة يشهدون ، فقال تعالى:{ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون4} [ النور] .