/م15
قال تعالى:( واللاتي يأتين الفاحشة ) اللاتي جمع سماعي لكلمة التي أو بمعنى الجمع .ويأتين الفاحشة معناها يفعلن الفعلة الشديدة القبح وهي الزنا على رأي الجمهور والسحاق على ما اختاره أبو مسلم ونقله عن مجاهد .وأصل الإتيان والآتي المجيء ، تقول جئت البلد وأتيت البلد ، وجئت زيدا وأتيته ، ويجعلون مفعولهما حدثا فيكونان بمعنى الفعل ، ومنه في المجيء قوله تعالى حكاية عن صاحب موسى ( لقد جئت شيئا نكرا ) [ الكهف:74] وقوله تعالى:( لقد جئتم شيئا إذا ) [ مريم:89] واستعمال الإتيان في الزنا واللواط هو الشائع كما ترى في الآيات عن قوم لوط وحينئذ يكون مفعوله حدثا كما في الآية التي نفسرها وما بعدها ، ويكون شخصا كما في قوله:( إنكم لتأتون الرجال ) [ الأعراف:81] الخ ولا أذكر الآن وأنا أكتب هذا في القسطنطينية مثالا في استعمال الإتيان والمجيء في فعل الخير وليس بين يدي وأنا في فندق المسافرين كتب أراجع فيها .( من نسائكم ) أي يفعلنها حال كونهن من نسائكم ( فاستشهدوا عليهن ) أي اطلبوا أن يشهد عليهن ( أربعة منكم ) والخطاب للمسلمين كافة لأنهم متكافلون في أمورهم العامة وهم الذين يختارون لأنفسهم الحكام الذين ينفذون الأحكام ويقيمون الحدود .ولفظ الأربعة يطلق على الذكور فالمراد أربعة من رجالكم قال الزهري: "مضت السنة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود "فيؤخذ منه أن قيام المرأتين مقام الرجل في الشهادة كما هو ثابت في سورة البقرة لا يقبل في الحدود فهو خاص بما عداها .وكأن حكمة ذلك إبعاد النساء عن مواقف الفواحش والجرائم والعقاب والتعذيب رغبة في أن يكنَّ دائما غافلات عن القبائح لا يفكرن ولا يخضن مع أربابها ، وأن تحفظ لهن رقة أفئدتهم فلا يكن سببا للعقاب .واشترطوا في الشهداء أيضا أن يكونوا أحرارا .
( فإن شهدوا ) عليهن بإتيانها ( فأمسكوهن في البيوت ) أي فاحبسوهن في بيوتهن وامنعوهن الخروج منها عقابا لهن وحيلولة بينهن وبين الفاحشة ، وفي هذا دليل على تحريم إمساكهن في البيوت ومنعهن الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو محض التحكم من الرجال واتباعهم لأهوائهم في ذلك كما يفعله بعضهم ( حتى يتوفاهن الموت ) التوفي القبض والاستيفاء أي حتى تقبض أرواحهن بالموت ( أو يجعل الله لهن سبيلا ) أي طريقا للخروج منها .فسر الجمهور السبيل بما يشرعه الله تعالى بعد نزول هذه الآية من حد الزنا لأنه هو المراد بالفاحشة هنا عندهم فجعلوا الإمساك في البيوت عقابا مؤقتا مقرونا بما يدل على التوقيت ورووا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال بعد ذلك: "قد جعل الله لهن سبيلا:الثيب جلد مئة ورجم بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة "أخرجه ابن جرير وقال بعضهم الحديث مبين للسبيل لا ناسخ والذين يجيزون نسخ القرآن بالأحاديث جعلوا هذا الحديث ناسخا للإمساك في البيوت وقال الآخرون بل الناسخ له آية النور ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) [ النور:2] .
وقال الزمخشري من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال ، ويكون السبيل- على هذا- النكاح المغني عن السفاح .وقوله هذا أو تجويزه مبني على كون آية الحد سابقة لهذه الآية وليس في القرآن دليل يمنع من ذلك .وأما قول الجمهور المبني على كون هذه الآية نزلت أولا فهو مؤيد بروايات عن مفسري السلف فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال:كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها .
وروى ابن جرير عن السدي:كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها .ولكننا إذا بحثنا في متن هاتين الروايتين كيفما كان سندهما نرى أنه لا يصح أن يكون ما جاء فيهما عملا بهذه الآية إذ ليس في الآية إجازة لأخذ المهر بل الآيات قبلها وبعدها تحرم أكل الرجل شيئا ما من حقوق المرأة ثم إن ابن جبير قال إنهم كانوا يحبسونها في السجن أي لا في بيتها ، وصرّح كل منهما بأن هذا كان في أول الإسلام وبدئه فيؤخذ من هذا كله أنهم كانوا يفعلون ذلك بالاجتهاد أو استصحاب عادات الجاهلية لأنهم لم يلتزموا العمل بنص الآية ولا يظهر القول بأن الآية نزلت في أول الإسلام وبدئه فقد بينا أن السورة مدنية وأنها نزلت بعد غزوة أحد التي كانت في أواخر سنة ثلاث من الهجرة فإن لم تكن نزلت كلها بعد غزوة أحد فقد تقدم أن آيات المواريث نزلت بعدها وهذه الآية وما بعدها متصلة بها .وقد فسر بعض المفسرين السبيل بالموت .ويحتمل أن يُراد بالسبيل على قول أبي مسلم ذهاب داعية السحاق والشفاء منه فإنه يصير مرضا ، وعلى رأي الجمهور التوبة وصلاح الحال ويرجحه الأمر في الآية الأخرى بالإعراض عن عقاب اللذين يأتيان الفاحشة إن تابا ، ومن رحمة الله تعالى وعدله أن يكون حكم النساء في ذلك كحكم الرجال فالإبهام والإجمال في آخر هذه الآية يفسره الإيضاح والتفصيل في آخر ما بعدها ويقوي ذلك ذكر أحكام التوبة بعدهما .
/خ16