النظرة الإسلامية للجنس من خلال العقوبة
وينتقل الحديث إلى موضوع آخر يرتبط بحدود الله في الجانب الأخلاقي من حياة الإنسان ،فقد أراد الإسلام له الانضباط في ممارساته الجنسية ،في دائرةٍ خاصة تشبع له غريزته من جهة ،وتحفظ له توازنه من جهةٍ أخرى ،على أساس القاعدة الأخلاقية الواقعية في الإسلام ،التي تشرّع للإنسان من باب أنه كائن له غرائزه وميوله وحاجاته ؛فلا تتنكر لها ،بل تعترف بها من ناحية المبدأ ،ولا تمنحها الحرية المطلقة التي تلغي روحيتها .
وقد سلك الإسلام الطريق العملي في التخطيط للانضباط ،وذلك في خطين: الخط الأول ،وهو خط التوعية الفكرية ،من خلال ما يثيره أمام الإنسان من المصالح والمفاسد الحقيقية ،في ما يريد منه أن يفعله أو يتركه ،ليرتبط الخط العملي بحسابات الأرباح والخسائر الحياتية التي يتحرك الإنسان من خلالها بشكلٍ طبيعي ؛والخط الثاني: وهو خط العقوبات الأخروية والدنيوية ،من خلال ما يريده الإسلام من حشد الضغوط المادية التي تشكّل حاجزاً نفسياً كبيراً ضد هذا العمل أو ذاك ،لأن أكثر الناس لا يتحركون في ممارساتهم من موقع القناعة الفكرية ،بل يحتاجون إلى الضغوط الخارجية والداخلية التي تعطي للإرادة قوة الموقف .وقد سلك الإسلام ،في هذا المجال ،سبيل إثارة العقوبات الأخروية في أغلب الأوامر والنواهي .أما العقوبات الدنيوية ،فقد اقتصرت على الجوانب المتعلقة بالنفس والعرض والمال ،في ما يمارسه الناس من أعمال متعلقة بهذه الأمور ؛هذا هو الباب الذي عنونه الفقهاء بكتاب الحدود والقصاص والديات ؛وربما كان الأساس في ذلك ،هو اهتمام الإسلام بالجانب الذي يحفظ للفرد والمجتمع بنيانه الذاتي في علاقاته الفردية والاجتماعية ،فيرتكز النظام العام للحياة على أساسٍ قويٍّ ثابتٍ ؛فإذا غفل الإنسان عن جانب العقوبة في الآخرة ،باعتباره من الغيب الذي لا ينفعل به الإنسان إلا من خلال شعور ضاغطٍ ،كان الجانب الدنيوي للعقوبة كفيلاً بتحقيق الانضباط أمام حدود الله .
وقد جاءت هاتان الآيتان ،لتتحدثا عن التخطيط الأولي في الإسلام للعقوبة على الفاحشة التي هي من المفاهيم العامة ،التي يمكن أن تنطبق على أكثر من حالةٍ من حالات الانحراف الأخلاقي ،لا سيما الأعمال المتعلقة بالجانب الجنسي من علاقات الإنسان ؛فقد أطلقت على الزنى في قوله تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [ الإسراء:32] وعلى اللواط في قوله تعالى:{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [ النمل:54] ؛كما أطلقت على بعض العلاقات المحظورة شرعاً ،في قوله تعالى:{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلا} [ النساء:22] ؛وقد جاءت بعض الآيات للتحدث عن المفهوم ،بشكلٍ عام ،يشمل الانحرافات المتنوّعة ،في قوله تعالى:{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ الأعراف:28] ،وفي قوله تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [ الأنعام:151] .كما وردت كلمة الفحشاء المعبّرة عن المفهوم ،في أكثر من آية .ولعل الأساس في هذا الشمول في المعنى هو طبيعة المعنى اللغوي لهذه الكلمة ،وهو الزيادة والكثرة ؛وكل شيء جاوز قدره وحدّه فهو فاحش .فإن ذلك يعني أن الإسلام يمثل ،في تشريعاته الإيجابية والسلبية ،الحدّ الطبيعي للأشياء ،في ما يريد للمكلّف أن يقف عنده ،مما يجعل من الفحشاء والفاحشة عنواناً لأيّ انحرافٍ وتجاوزٍ عن الحدّ الشرعي للأمور ،سواءٌ في السلوك الأخلاقي أو الاقتصادي أو الاجتماعي ،ولكن الإسلام لم يجعل العقوبة على المفهوم العام للكلمة ،بل وضعها في حدودٍ معيّنة من الممارسات المرتبطة بالجانب الجنسي للإنسان ،كالزنى واللواط والسحاق والقيادة والقذف ونحو ذلك ...
وقد اختلف المفسرون في المراد من كلمة الفاحشة في هاتين الآيتين ،هل هو معنى واحدوهو الزنىأم أن الآية الأولى تتحدث عن السحاق ،والثانية عن اللواط ،أم أن المراد بالأولى الزنى ،وبالثانية اللواط .
وقد لا نجد في مدلول الآية ،من حيث منطوق الكلمات فيها ،ما يؤكد هذا القول أو ذاك ،ما دامت الكلمة تتسع لأي معنىً من هذه المعاني ؛ولكن البعض حاول أن يفهم منها بعض ملامح التخصيص ،فقد ذكر أن مورد الآية الأولى هو المحصنات المتزوجات ،لأن كلمة النساء تطلق في أكثر من مورد في القرآن على الزوجات ،كما أن العرف يساعد على ذلك ،بينما يراد من الآية الثانية غير هذا المورد في الرجال والنساء ،في ما تعطيه كلمة:{وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} بلحاظ الحديث فيها عن الإيذاء الذي هو عنوانٌ للعقوبات المختلفة التي جعلت في هذا المجال .
وحاول البعض أن يستنطق كلمة «واللذان » ،ليجعلها دليلاً على إرادة اللواط من الآية الثانية ؛فإن العدول عن التأنيث في الأولى إلى التذكير في الثانية ،يدل على أن الحكم فيها مختلفٌ في مورده عن الأولى ،لتكون الثانية مختصة بالانحراف المذكّر من الفاعل والمفعول ،والأولى مختصة بالانحراف المؤنّثإن صح التعبيرفي ما يمثله الحديث عن{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} وذلك لأنه لا وجه لهذا التنوّع في التعبير إلا الإشارة إلى ذلك .
أما أبو مسلم ،فقد استفاد من هذا التنويع طبيعة المقصود من الفاحشة ،فقد اعتبر الحديث عن ( اللاتي ) في الأولى حديثاً عن الفاحشة التي تكون كل عناصرها من النساء ،والمتمثلة في عملية السحاق ؛كما أن الحديث عن «اللذان » هو حديثٌ عمّا يكون العنصر الكامل فيه من الرجال ،وذلك هو شأن اللواط .
وهكذا حاول كل فريق أن يجد في بعض الجوانب الفنية للكلمات ما يؤكد الوجه الذي يذهب إليه ،ولكننا نحسب أن ذلك كله لن يجعل المعنى محصوراً في ما ذهبوا إليه ،لأن أيّ جانب من الجوانب التي أثاروها في عملية الاستنطاق للكلمات ،لا يخلو من احتمال آخر لوجه آخر .وكمثالٍ على ذلك نقف أمام الوجه الأول الذي ارتكز على ظهور كلمة النساء في المتزوجات ؛فإننا نواجه عدة آياتٍ في القرآن تتحدث عما يشمل غير المتزوجات بكلمة النساء ،كما في كثيرٍ من آيات الإرث وغيرها ،كما أن هذا الوجه لم يتحدث عن معنى التثنية المذكورة في الآية الثانية في مقابل الجمع المؤنث في الأولى… وهكذا نجد المعنى الثاني في اختصاص الثانية باللواط ،فإن كلمة «واللذان » يمكن أن تكون واردةً مورد التغليب على أساس إرادة الزنى منها .وهذا بابٌ واسعٌ في التعابير القرآنية وغيرها ،مما لا يجعل المعنى مخصوصاً بما ذكر ؛وبهذا يمكننا المناقشة في الوجه الثالث .
وفي ضوء ذلك ،لا بد لنا أن نقف من هذه الوجوه موقف الاحتياط ،الذي لا يستطيع الجزم بشيء منها ،من خلال طبيعة المدلول اللفظي للآية ،بل يرد علمه إلى أهله ،فيرجع إلى الأحاديث الواردة في التفسير ،ليحدّد من خلالها المعنى الذي تكون الآية فيه منسوخة أو محكمة ؛وذلك موكول إلى الفقه ،فقد يكفينا في نطاق التفسير أن نشير إلى الوجوه المحتملة في هذا الباب ،ونعرف من خلال ذلك كله ،أن الإسلام خطط للعقوبة على الفاحشة في نطاق العلاقة الجنسية المنحرفة ،سواء كانت الزنى كما عليه أغلب المفسرين ،أو الشذوذ الجنسي المذكر أو المؤنث كما عن أبي مسلم ،وذلك على أساس إيجاد العنصر الرادع الذي يفسح المجال في حركة الواقع لإبعاد الناس عن الانحراف الخُلُقي .أما مفردات الآيتين ،فيمكن أن نوضحها ضمن نقاط:
1{فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} هذا تخطيط للشهادة في الزنى ،فلا بد من أربعة شهداء ،إذ لا يثبت بغير ذلك ،ولا بد من الذكورة والإيمان بالإضافة إلى شروط أخرى جاءت بها السنة .
2{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} قيل في معناه: إن ذلك كناية عن إبعادهن عن أجواء الانحراف وصيانتهن عن مثل فعلهن ،والأكثر أنه على وجه الحد على الزنى .وكان ذلك في أول الإسلام ،ثم نسخ بآية الجلد ؛كما في كنز العرفان .
3{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ…} أي ملك الموت ،والتوفية بلوغ الشيء حده ،{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} قيل: السبيل هو الحكم الناسخ ،ولهذا لما نزلت آية الجلد ،قال النبي( ص(: «قد جعل الله لهن سبيلاً » .وهناك وجوه أخرى .
4{فَآذُوهُمَا} قيل المراد به التوبيخ والاستخفاف ؛وبهذا لا يكون منسوخاً ،لأنه حكم ثابت مطلق بل المنسوخ الاقتصار عليه ،وقيل: إنه عنوان للحدّ الواجب في هذه المعصية .
5{فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} فيه دلالة على أن الزاني إذا تاب قبل الرفع إلى الحاكم لا يحدّ ؛وأمّا بعد الرفع والحضور ؛فإن ثبت بالإقرار تخيّر الإمام ،وإن ثبت بالبينة تحتّم الحدّ .والمراد بالإصلاح الاستمرار على التوبة .
وهناك بعض النقاط التي لا بد من إيضاحها حول تفسير الآية:
1إن الآية تتحدث عن الحبس المؤبد للنساء الزانيات كحكم مؤقت ،لأنها أوحت في قوله تعالى:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} بأن من الممكن أن تنطلق التعاليم الإلهية في عمليةٍ تشريعيةٍ جديدةٍ تنهي هذا الحبس المؤبد إذا بقين في الحياة ،فيكتفى بذلك الحبس في الماضي لإلغائه من التشريع لمصلحة تشريع آخر ،وهو الجلد لغير المحصنة أو الرجم للمحصنة ،فلا يشملها الحكم الجديد ،لأن الحكم الجزائي لا يشمل الحالات السابقة على تشريعه .وبهذا نفهم ما معنى كلمة السبيل التي أريد لهن انتظاره ،لأنهن يحصلن على الحرية بعد ذلك وربما استفاد البعض من كلمة{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} إصدار القانون بالجلد أو الرجم الذي يحدد عقوبتهن بذلك ،لأنه الطريق الذي يريد لهن السير فيه ،ولكن هذا بعيدٌ عن الظاهر من الكلمة ،لأن الظاهر من كلمة السبيل ،وسيلة النجاة وطريق الخلاص ،وهذا لا ينسجم مع الجلد أو الإعدام .
وربما كانت مسألة السّبيل متعلقةً بالعنوان العام للزانية ،لا التي سبق لها الزّنى في مرحلة نزول الآية ،فيكون ذلك هو السبيل الذي ينصرف إليه أمرهنّ في تحديد العقوبة الشرعية .ولعلّ هذا ما روي في مجمع البيان: «قالوا: لما نزل قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [ النور:2] ،قال النبي( ص ): خذوا عنّي ،خذوا عني ،قد جعل الله لهنّ سبيلاً ،البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ،والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم .وقال بعض أصحابنا: إنّ من وجب عليه الرجم يجلد أولاً ثمّ يرجم .وبه قال الحسن وقتادة وجماعة من الفقهاء .وقال أكثر أصحابنا: إنّ ذلك يختص بالشيخ والشيخة ،فأما غيرهما فليس عليه غير الرّجم ،وربما نستوحي من تشريع الحبس في البيوت ،أن الزانية تبقى في المحضن الطبيعي الحميم الذي عاشت فيه بين أهلها ،مما يكفل لها الجوّ الملائم للبعد عن البيئة المنحرفة وعن المؤثرات الأخلاقية السلبية التي تزيد في انحرافها ،لأن طهارة الجو قد تترك آثارها على الجو النفسي الطاهر للإنسان من خلال الناس الذين يحيطون به في سلوكهم المنفتح على العفة وعلى تقوى الله ؛الأمر الذي يحصّن هذه الإنسانة ويدفعها إلى التوبة ويفسح لها المجال لحساب النفس ،بينما نجدمن خلال التجربة الطويلة المعاصرةأن السجون العامة التي تحتوي الكثيرات من المنحرفات اللاتي انحرفن عن خط العفة أو عن خط الأمانة أو انفتحن على الجريمة والفساد الأخلاقي والاجتماعي ،قد تتحول إلى مدرسة للانحراف وللإصرار على البقاء في نفس الموقع من خلال بعض المؤثرات السلبية التي تساهم في توجيه المنحرفة إلى الاستمرار في الانحراف أو زيادته لديها ،بالرغم من بعض البرامج التوجيهية التي تقوم بها إدارات السجون ،بحيث نجد أن المجرم يزداد إجراماً بعد خروجه من هذه السجون .
2ربما يستفاد قيد «عدم الإحصان » في الآية الثانية من كلمة{فَآذُوهُما} لأن الاقتصار على الإيذاء ،سواء أريد به العنوان العام للكلمة أو أريد به الجلد المذكور في الآية الثانية من سورة النور ،لا يتلاءم مع عقوبة الرجم التي تمثل الإعدام ،وهذا ما جاء في البحار عن أبي عبد الله( ع ) قال: قلت قوله:{وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} قال: يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب{فََاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} ،قال: تحبس{فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} .
3ربما نستوحي من كلمة{فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} أن العاصي إذا تاب وأصلح أمره فلا بد من إهمال الحديث عن معصيته وقبول توبته اجتماعياً ،باعتبار قبول الله توبة التائب ،فلا يجوز تذكيره بها وتعييره بنتائجها لتكون عنواناً لشخصيته في الواقع الاجتماعي بحيث يرفضه الناس من خلال تاريخه السّيىء ،فإن الله إذا عفا عنه وأسقط حقه بالتوبة والإصلاح ،فعلى الناس أن يمتنعوا عن الإساءة إليه ،بل لا بد من أن يعتبروا ذلك بمنزلة العدم ،فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
وهكذا إذا طبّق عليه الحكم الشرعي بالجلد أو نحوه وتاب منه بعد ذلك فإن على الناس أن لا يثيروا ذلك في أحاديثهم عنه ،بل يتناسوه ليشجعوه على الاستمرار في خط التوبة بالتأكيد على الواقع الجديد الصالح الذي تحوّل إليه .
4 هل الآية منسوخة ؟
جاء في مجمع البيان: حكم هذه الآية منسوخ عند جمهور المفسرين وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله( ع ) ،وقال بعضهم إنه غير منسوخ ،لأن الحبس لم يكن مؤبداً ،بل كان مستنداً إلى غاية ،فلا يكون بيان الغاية نسخاً له ،كما لو قالوا افعلوا كذا إلى رأس الشهر ،وقد فرّق بين الموضعين ،فإن الحكم المعلّق بمجيء رأس الشهر لا يحتاج إلى بيان صاحب الشرع ،بخلاف ما في الآية .
وقد ذكر الأستاذ المحقق السيد أبو القاسم الخوئي ( قدس سره ) في كتابه «البيان في تفسير القرآن » في بحث «النسخ في القرآن » ،بعد إشارته إلى ما ذكره الجصاص في أحكام القرآن أن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين( في الآيتين )عن الزانيين ما هذا نصه: «والحق أنه لا نسخ في الايتين جميعاً ،وبيان ذلك: أن المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه وتفاحش ،وذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة وقد يكون بين ذكرين فيكون لواطاً ،وقد يكون بين ذكر وأنثى فيكون زنًى ،ولا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنى لا وضعاً ولا انصرافاً ،ثم إن الالتزام بالنسخ في الآية الأولى يتوقف:
أوّلاً: على أن الإمساك في البيوت حدٌّ لارتكاب الفاحشة .
ثانياً: على أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم والجلد ،وكلا هذين الأمرين لا يمكن إثباته ،فإن الظاهر من الآية المباركة أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرّةً ثانية ،وهذا من قبيل دفع المنكر ،وقد ثبت وجوبه بلا إشكال في الأمور المهمة كالأعراض والنفوس ،والأمور الخطيرة ،بل في مطلق المنكرات على قول بعض ،كما أن الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب ،فكيف يكون منه الجلد والرجم ،وهل ترضى المرأة العاقلة الممسكة في البيت مرفهة الحال أن ترجم وتجلد ؟وكيف يكون الجلد أو الرجم سبيلاً لها ،وإذا كان ذلك سبيلاً لها ،فما هو السبيل عليها ؟
وعلى ما تقدم ،فقد يكون المراد من الفاحشة خصوص المساحقة ،كما أن المراد بها في الآية الثانية خصوص اللواط ،وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى ،وقد يكون المراد منها ما هو أعم من المساحقة والزنى ،وعلى كلا هذين الاحتمالين ،يكون الحكم وجوب إمساك المرأة التي ارتكبت الفاحشة في البيت حتى يفرّج الله عنها ،فيجيز لها الخروج إما للتوبة الصادقة التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة مرة ثانية ،وإما لسقوط المرأة عن قابلية ارتكاب الفاحشة لكبر سنّها ونحوه ،وإمّا بميلها إلى الزواج وتزوجها برجل يتحفظ عليها ،وإما بغير ذلك من الأسباب التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة .وهذا الحكم باقٍ مستمر ،وأمّا الجلد أو الرجم ،فهو حكم آخر شُرِّع لتأديب مرتكبي الفاحشة ،وهو أجنبيّ عن الحكم الأول ،فلا معنى لكونه ناسخاً له .
وبتعبير آخر: إن الحكم الأول شرّع للتحفّظ عن الوقوع في الفاحشة مرّةً أخرى ،والحكم الثاني شرّع للتأديب على الجريمة الأولى وصوناً لباقي النساء عن ارتكاب مثلها ،فلا تنافي بين الحكمين لينسخ الأول بالثاني .نعم ،إذا ماتت المرأة بالرجم أو الجلد ،ارتفع وجوب الإمساك في البيت لحصول غايته ،وفي ما سوى ذلك ،فالحكم باق ما لم يجعل الله لها سبيلاً .
وجملة القول: إن المتأمل في معنى الآية لا يجد فيها ما يوهم النسخ ،سواءٌ في ذلك تأخر آية الجلد عنها وتقدمها عليها .
وأما القول بالنسخ في الآية الثانية فهو أيضاً يتوقف:
أوّلاً: على أن يراد من الضمير في قوله تعالى:{يَأْتِيَانِهَا} الزنى .
ثانياً: على أن يراد بالإيذاء الشتم والسب والتعيير ونحو ذلك ،وكلا هذين الأمرينمع أنه لا دليل عليهمناف لظاهر الآية .
وبيان ذلك: أن ضمير الجمع المخاطب قد ذكر في الآيتين ثلاث مرات ،ولا ريب أن المراد بالثالث منها هو المراد بالأولين ،ومن البيّن أن المراد بهما خصوص الرجال .وعلى هذا ،فيكون المراد من الموصول رجلين من الرجال ،ولا يراد منه ما يعمّ رجلاً وامرأة ،على أن تثنية الضمير لو لم يرد منه الرجلان ،فليس لها وجه صحيح ،وكان الأولى أن يعبر عنه بصيغة الجمع ،كما كان التعبير في الآية السابقة كذلك .وفي هذا دلالةٌ قويةٌ على أن المراد من الفاحشة في الآية الثانية هو خصوص اللواط لا خصوص الزنى ،ولا ما هو أعم منه ومن اللواط ،وإذا تمّ ذلك ،كان موضوع الآية أجنبياً عن موضوع آية الجلد .
وإذا سلّمنا دخول الزاني في موضوع الحكم في الآية ،فلا دليل على إرادة نوع خاص من الإيذاء الذي أمر به في الآية ،عدا ما روي عن ابن عباس أنه التعيير وضرب النعال ،وهو ليس بحجة ليثبت به النسخ ،فالظاهر حمل اللفظ على ظاهره ،ثم تقييده بآية الجلد ،أو بحكم الرجم الذي ثبت بالسنّة القطعية .
وجملة القول: أنه لا موجب للالتزام بالنسخ في الآيتين ،غير التقليد المحض ،أو الاعتماد على أخبار الآحاد التي لا تفيد علماً ولا عملاً » .
ونلاحظ على كلام سيدنا الأستاذ ( قدس سره ) ،أن استظهاره من الآية المباركة الأولى أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية ،غير واضح من حيث مدلولها ،بل قد تكون ظاهرةً في العقوبة بالسجن المؤبد في البيت ،لأنه ليس من الطبيعي أن يكون إبعادها عن الفاحشة بهذه الطريقة ،إذ ليس من الضروري أن تكون هذه المرأة الزانية قد تحولت المعصية لديها إلى حالة متجذرة في الذات ومستمرّةٍ في حركة سلوكها ،بل قد يكون الزنا حالةً طارئةً جديدةً في حياتها ؛الأمر الذي يمكن فيه نهيها عنه بالوسائل العادية للنهي عن المنكر .
أما ملاحظته حول جعل السبيل ،فإننا قد نتفق معه في رفض اعتبار الرجم أو الجلد سبيلاً ،على أساس تفسير السبيل بالحلّ الذي يتخلص به من هذا السجن المؤبد ،ولكن من الممكن أن يكون المقصود منه الوسيلة التي يمكن لها فيه أن تنال عقوبتها ،كالجلد الذي اقتصر القرآن عليه ،«لأن الرجم ثبت بالسنة » ،فتملك بذلك حريتها في الحركة وتتخلص من سجنها ،وهذا هو الذي تؤيده الرواية التي جاءت عن النبي محمد( ص ) مما رواه صاحب مجمع البيان حيث قال( ص )حسب الرواية: قد جعل الله لهن سبيلاً عند نزول آية{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} .وعلى ضوء هذا فيمكن أن يكون الحكم المذكور في هذه الآية منسوخاً كما عبر به الطبرسي في مجمع البيان ،بلحاظ أن الحكم بالإمساك بالبيوت قد ارتفع بآية النور وليس المراد بالنسخ المعنى المصطلح .
وبهذا تكون الآية واردةً لبيان حكم النساء بقطع النظر عن الرجال .أمّا الآية الأخرى ،فقد تكون متعرضةً لحكم الطرفين الرجل والمرأة ،وهذا هو سر التثنية ،ويكون الحديث عن الإيذاء حديثاً عاماً لا اختصاص له بما ذكره المفسرون ،وكأنه إشارةٌ لما جاء في سورة النور ،والله العالم .