{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما( 40 ) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا( 41 ) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض و لا يكتمون الله حديثا( 42 )}
/م40
وفي هذه الآية الكريمة بين الجزاء الأوفى من خير أو شر ، وأن الشر لا يجازى إلا بمثله ، وأن الحسنة تكون بأضعافها ، ولذا قال سبحانه:
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة}المثقال- معناه المقدار الذي له ثقل يحتمل أن يوزن ، والذرة الغبار الذي لا يرى في أكثر الأحوال ، والمعنى اللفظي أن الله لا ينقص عاملا حقا وزن ذرة ، وهي لا تعلي الميزان ولا تخفضه ، إلا أن يكون ميزانا دقيقا جدا ، وهذا النوع من الموازين لا يوجد في الدنيا ، ولكن يوجد في الآخرة ، فعندئذ تكون الموازين القسط التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا قومتها .
ومعنى النص في مرماه أن الله سبحانه وتعالى ، لا ينقص أحدا من ثواب عمله أي مقدار ولو ضؤل ، فهذا الكلام فيه استعارة مؤداها أنه لا ينقص عمل عامل ، لقوله تعالى:{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره( 7 ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره( 8 )}( الزلزلة ) . وإن النص عام يشمل المؤمن وغير المؤمن في ظاهره ، ولذا تكلم العلماء في أعمال الخير التي تقع من الكافر إذا قصد بها وجه الله تعالى مع كفره وضلاله ، وقال الأكثرون إن الله لا يغفر الشرك ، ويعطي الكافر ثواب الخير في الدنيا ، أما المسلم فيؤتيه ثواب الخير في الدنيا والآخرة ، واستندوا في ذلك إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة ، يعطى بها في الدنيا ، ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى بها إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها"{[732]} .
وإن ذلك نظر حسن يفسره ما نراه للكافرين من نعم مادية في الدنيا تجرى عليهم ، فلعلها ثمرة لما عملوا من بعض الخيرات في التعاون الإنساني ، وثمرة لاتخاذهم أسباب الرزق على وجه كامل .
ويميل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إلى أن الكافر إن عمل خيرا يقصد به وجه الله أو سبيل الخير المجردة ، لا يضيعه الله تعالى عليه يوم القيامة ، ولكن ينقص به من سيئاته ، غير الكفر والإشراك فإن هذين لا يكفرهما شيء ، ويؤيد نظره هذا بأن الآثار قد وردت بأنه يخفف عن أبي طالب لكفالته النبي صلى الله عليه وسلم ، وحمايته له{[733]} ، وقد كان في ذلك حماية للدولة الإسلامية .
وقد روى أيضا أنه يخفف عن أبي لهب لعتقه ثويبة حين بشرت بمولد النبي صلى الله عليه وسلم{[734]} ، وأبو لهب هذا هو الذي قال الله تعالى فيه وفي امرأته:{ تبت يدا أبي لهب وتب( 1 )} إلى قوله{ وامرأته حمالة الحطب( 4 ) في جيدها حبل من مسد( 5 )( المسد ) . فحسنات الكفار تكفر السيئات التي دون الشرك والكفر ، على هذا النظر ، فالكفر لا يغفر ، ويذهب من السيئات الأخرى بمقدار الحسنات ، ونحن لا نرى في ذلك خروجا عن حكم الإسلام ، وهو معقول في ذاته يتفق مع عموم النصوص ، وإن كنا نميل إلى الأول .
{ وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما}وإن الله سبحانه وتعالى عفو غفور رحيم بعباده ، لا يكتفي بمنع الظلم عمن يحسن ، بل إنه يضاعف الأجر لمن يحسن ، و"تك"أصلها"تكن"حذفت النون و"كان"هنا ناقصة ، والمعنى:وإن تكن الفعلة حسنة تكون مضاعفة ، ومعنى يضاعفها أي يكون بدلها أمثالا كثيرة لها . وقد قيل:إن الفرق بين المضاعفة والتضعيف أن المضاعفة تكون بأضعاف كثيرة ، والتضعيف يكون بضعفين اثنين ، والمؤدى أن الحسنة تكون بأمثال كثيرة لها كقوله تعالى:
{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة( 245 )}( البقرة ) وقوله تعالى:{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون( 160 )} ( الأنعام )فالله سبحانه وتعالى لا ينقص من عمل الخير شيئا بل يضاعفه في الآخرة ، وإن الله سبحانه وتعالى فوق هذا الجزاء المضاعف أضعافا كثيرة يزيد المحسن من عطائه ، ولذا قال سبحانه:{ ويؤت من لدنه أجرا عظيما}أي أن الله تعالى يعطي عطاء كثيرا ، غير ملاحظ فيه المثلية والمضاعفة ، بل إنه سبحانه فوق مضاعفة الحسنة بأمثالها ، يعطي عطاء سمحا غير مقيد بالمضاعفة ، بل إنه يكون سماحا ، وكرما من الله تعالى . وسمى ذلك العطاء أجرا ، وهو في الحقيقة ليس في مقابل عمل ، لأن مقابلة العمل كانت بالأمثال السابقة ، لأن الأجر قد يطلق على مطلق العطاء ، وإن لم يكن له مقابل ، وتفضل الله تعالى في كرمه فسماه أجرا ، وإن لم يكن له نظير ، فهو أجر غير ممنون .
وقد عظم الله سبحانه وتعالى العطاء غير الممنون بوصفين .
أحدهما:أنه عظيم في ذاته ذو جلال وشأن ، فهو رضوان الله تعالى ، ونعيم مقيم ، وجنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
والثاني:أنه عطاء من لدن الله تعالى ، فهو نال شرفا إضافيا بأنه من الله تعالى .
وكانت عظمة العطاء على ذلك الوجه ليقدم المؤمن على العمل الصالح .
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن كل ما يكون يوم القيامة من حساب ، أدلته ثابتة من نطق الجوارح بما صنعت ، ومن شهادة الأنبياء بالتبليغ والبيان ، فالجرائم معها دليل وقوعها ، والقانون الذي نظم العقاب وجرمها قائم بشهادة الذين أعلنوه وبينوه ، ولذا قال تعالى:{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} .