{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}
/م40
الاستفهام هنا للتنبيه ، وبيان ما سيكون يوم القيامة من حساب يتبعه عقاب عادل ، أو ثواب يتبعه جزاء سابغ وعطاء غير ممنون . والمعنى تنبهوا أي هؤلاء الذين يجحدون الأدلة القائمة ، والرسالات الثابتة ، وتصوروا حالكم ، وأعمالكم تنطق بها ألسنتكم وجوارحكم ، ومعكم النبيون يشهدون عليكم بالتبليغ والبيان ، وأنه لم يكن لكم حجة في كفر ، ولا معذرة في جحود . والشهيد هو الشاهد الناطق بالحق ، المتحري المستقصي الذي لا يترك حقا لم يبينه . ومعنى قوله تعالى:
{ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}أنه يؤتى لكل أمة من الأمم بشهيد منها هو نبيها الذي بعث فيها ودعاها إلى الحق ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فكل نبي يشهد على قومه بالتبليغ والبيان . وما من أمة إلا كان لها نذير ، فقد قال تعالى:{ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( 24 )}( فاطر ) ، وقال تعالى{. . .وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا( 15 )( الإسراء ) .
وقد اختلف في الإشارة في قوله تعالى:{ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} ، فقال بعض المفسرين:إن الإشارة في هؤلاء إلى النبيين السابقين ، فالنبي صلى الله عليه وسلم باعتباره خاتم النبيين ، وأن رسالته خالدة إلى يوم القيامة ، ولتكريم الله تعالى ، يكون شاهدا على كل النبيين السابقين ، والشهادة عليهم بمعنى أداء الشهادة بأنهم بلغوا ، وكانت التعدية بعلى للإشارة إلى معنى المحافظة على أصول الشرائع السابقة لاشتمال القرآن الكريم عليها ، ونشرها خالصة سائغة واضحة بينة للأجيال .
هذا هو القول الأول_ والقول الثاني أن المشار إليهم في النص الكريم هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي أكثر الأمم عددا ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا ؛ إذ دينه لم يحرف ولم يبدل ، فقد حفظت أصوله في القرآن الكريم ، وهو نور الله تعالى الباقي إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى:{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( 9 )}( الحجر ) وإن الكثيرين على الأول ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له شهادتان إحداهما شهادة للرسالات السابقة بالصدق والبيان ، وقد اطلع على الشهادة المسلمون ببيان القرآن ، والثانية شهادته على أمته ، وقد جمع الشهادتين قوله تعالى:{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( 143 )}( البقرة ) وإن تلك منزلة عالية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إيمانا صادقا الذين يذعنون للحق دائما ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعظم أمر هذه الشهادة ، فقد روى أحمد في مسنده ، والبخاري في صحيحه والترمذي والنسائي في سننهما ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اقرأ علي"، قلت:يا رسول الله ، أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ قال:"نعم أحب أن أسمع من غيري"، فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية:{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} ، فقال:"أمسك"، وفي رواية:"حسبك الآن"، فإذا عيناه تذرفان{[735]} . وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرط إيمانه بالله تعالى تخوف يوم الحساب والعقاب ، واستعظم تلك الشهادة التي وضعت في عنقه ، وهي أعظم أمانة ، فسالت عبرات عينيه صلى الله عليه وسلم{[736]} .