وقوله:( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) يقول تعالى - مخبرا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه:فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام ؟ كما قال تعالى:( وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء [ وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون] ) [ الزمر:69] وقال تعالى:( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [ وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين] ) [ النحل:89] .
قال البخاري:حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال:قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ علي "قلت:يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال:"نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري "فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية:( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال:"حسبك الآن "فإذا عيناه تذرفان .
ورواه هو ومسلم أيضا من حديث الأعمش ، به وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود ، فهو مقطوع به عنه . ورواه أحمد من طريق أبي حيان ، وأبي رزين ، عنه .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري ، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ ، فأتى على هذه الآية:( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه ، فقال:"يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه ، فكيف بمن لم أره ؟ ".
وقال ابن جرير:حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود - ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ".
وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة "حيث قال:باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته:قال:أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المنهال بن عمرو ، حدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول:ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية ، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم ، يقول الله تعالى:( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فإنه أثر ، وفيه انقطاع ، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم ، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه . وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده:[ قد تقدم] أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس ، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة . قال:ولا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ، ويوم الجمعة مع الأنبياء ، عليهم السلام .
وقوله ( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ) أي:لو انشقت وبلعتهم ، مما يرون من أهوال الموقف ، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ ، كقوله:( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا] ) وقوله ( ولا يكتمون الله حديثا ) أخبر عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ، ولا يكتمون منه شيئا .
قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام ، حدثنا عمرو ، عن مطرف ، عن بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال:أتى رجل ابن عباس فقال:سمعت الله ، عز وجل ، يقول - يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا -:( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام:23] وقال في الآية الأخرى:( ولا يكتمون الله حديثا ) فقال ابن العباس:أما قوله:( والله ربنا ما كنا مشركين ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا:تعالوا فلنجحد ، فقالوا:( والله ربنا ما كنا مشركين ) فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ( ولا يكتمون الله حديثا )
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن رجل عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال:جاء رجل إلى ابن عباس فقال:أشياء تختلف علي في القرآن . قال:ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال:ليس هو بالشك . ولكن اختلاف . قال:فهات ما اختلف عليك من ذلك . قال:أسمع الله يقول:( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام:23] وقال ( ولا يكتمون الله حديثا ) ; فقد كتموا ! فقال ابن عباس:أما قوله:( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، جحد المشركون ، فقالوا:( والله ربنا ما كنا مشركين ) ; رجاء أن يغفر لهم . فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك:( يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا )