{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا( 47 ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فد افترى إثما عظيما( 48 )} .
/م47
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم} النداء لأهل الكتاب كما ترى ، والتعبير بالموصول للإشارة إلى أن إعطاء علم الكتاب لهم كان يوجب أن يؤمنوا ، لا أن يعرضوا ويعاندوا ويلجوا في العناد . وفي النص الكريم تحريض على الإيمان بثلاثة أمور:
أولها:أنهم أوتوا الكتاب وعلم النبوات ، وأنهم يعلمون الوحي الإلهي ، والكتاب الذي نزل على نبيهم ، والأنبياء قبله ، وإن ذلك كله يوجب المسارعة إلى تلبية داعي الحق إذا دعوا ، وألا تأخذوا العصبية الدينية ، كما تأخذ أهل الشرك العصبية الجاهلية .
وثانيها:أن هذا الإيمان هو التصديق بما نزل الله تعالى على نبيه ، والله هو الذي أنزل على نبيكم أو أنبيائكم شرائعه ، وهو الذي نزل الشريعة التي تدعوكم إلى الإيمان ، ووحدة المنزل توجب الإيمان بكل ما أنزل ، وإلا كنتم تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض .
وثالثها:أن هذا الذي يدعوكم رب العالمين إلى الإيمان به ، هو مصدق ما معكم من الحق ؛ لأن البشارة برسوله عندكم ، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا ، لأن الفضائل الدينية والاجتماعية قد اتفقت فيما يدعو إليه النبي مع ما دعا إليه أنبياؤكم من قبل ، فالوحدة الدينية قائمة بوحدة المنزل ، وبوحدة الحق الذي يدعوكم إليه رب العالمين .
وقد يقول قائل:في الآيات السابقة ، ذكر سبحانه في غير هذا المقام أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، وفي هذه الآية يناديهم بأنهم "أوتوا الكتاب"؟ ونقول في الإجابة عن ذلك:إن نسيانهم حظا مما ذكروه به ، وتركهم نصيبا منه ، لا يمنع الحكم بأنهم أوتوا الكتاب ، لأنه نزل على أنبيائهم السابقين كاملا غير منقوص ، فهم أعطوه ثم نقصوه ، والخطاب لهم على أساس ما أوتوه ، لا ما حرفوه ، ولعله كان من أحبارهم من يعلم علم الكتاب كله ، بل إن ذلك يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون( 159 ) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم( 160 )} ( البقرة ) .
وقد يكون معنى الكتاب هنا جنسه ، وهو يشمل ما بقي عندهم معلنا معرفا ، وإن كان ناقصا محرفا .
{ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم} هذا إنذار بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا ، وقد جاءت في مفردات الأصفهاني في معنى الطمس ما نصه:( الطمس إزالة الأثر بالمحو ، قال تعالى:{ فإذا النجوم طمست( 8 )}( المرسلات ) ،{ ربنا اطمس على أموالهم . . .( 88 )}( يونس ) أي أزل صورتها ،{ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم . . .( 66 )} ( يس ) أي أزلنا ضوءها وصورتها كما يطمس الأثر . وقوله تعالى:{ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم} ، منهم من قال عنى ذلك في الدنيا ، وهو أن يصير على وجوههم الشعر ، فتصير صورهم كصورة القردة والكلاب ، ومنهم من قال ذلك هو في الآخرة إشارة إلى ما قال تعالى:{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره( 10 )} ( الانشقاق ) ، وهو أن تصير عيونهم في قفاهم . وقيل معناه يردهم عن الهداية إلى الضلال ، كقوله تعالى:{ وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه( 23 )} ( الجاثية:23 ) . وقيل عنى بالوجوه الأعيان والرؤساء ، ومعناه نجعل رؤساءهم أذنابا وذلك أعظم البوار ) .
هذا هو التفسير اللغوي لمعنى الطمس ، وقد حاول الأصفهاني تخريج الآية التي نتكلم في معناها على ما ارتأى من وجوه ، فصرنا حيارى في أيها نختار ، لو اقتصرنا على ما قال ، وقبل أن نبين ما نراه معنى للنص الكريم نبين معنى الأدبار وردها:الأدبار جمع مفرده"دبر"، هو الخلف ، أو ما اشتملت عليه أجزاء الجسم الخلفية ، والارتداد على الأدبار يكون في القتال يوم الزحف يجعل الوجوه في موضع الأدبار فرارا أو جبنا ، بمعنى أنه كان يجب أن يستقبل المقاتلين بوجهه فينقلب إلى جهة دبره . وقد يكون الارتداد على الأدبار معنويا كقوله تعالى:{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم( 25 )}( محمد ) .
إن الذي يبدوا لنا من ظاهر النص أنه يراد به سحقهم في القتال ، وحملهم على أن يولوا الأدبار ، فتكون وجوههم غير بادية بصورها ، بعد أن كانوا مقبلين بها ، فأزالها السيف والخوف ، وجعل صورتها مختفية ، وأقفيتهم هي البادية الواضحة ، فكأن صورة الوجوه قد زالت وحلت محلها صورة الأدبار .
وعلى ذلك يكون المعنى أنكم استرسلتم في غيكم وضلالكم ، ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإيمان قبل أن ينزل الله سبحانه وتعالى غضبه عليكم في الدنيا إذ تماديتم ، وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم ، فيذيقونكم بأس القتال فتفرون ، وتختفي وجوهكم ، وترد إلى مواضع الأدبار ، فلا ترى إلا أدباركم . وإذا لم يكتب الله سحقكم وحملكم على تولي الأدبار ، فإنكم ستلعنون كما لعن أصحاب السبت ، وتطردون من رحمته ، ويكتب عليكم الذل إلى يوم القيامة .
{ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا}اللعن الطرد من الرحمة وإنزال العذاب ، وقد كان في شريعة بني إسرائيل ألا يعملوا في يوم السبت ليستريحوا وينصرفوا للعبادة ، والتعاون الاجتماعي ، ولكن رغبتهم في المال وشرههم إليه يحمل بعضهم على العمل ، فإنه كانت قرية كبيرة تطل على البحر ، قد اختبرها الله تعالى ، فكانت في يوم السبت تأتيهم الحيتان ظاهرة في هذا اليوم الذي ينقطعون فيه عن العمل ، ولا تأتيهم اليوم الذي يعملون فيه ، ليحملهم الله تعالى على الطاعة للأوامر الإلهية ، وليدركوا سر الله في خلق الكون ، وأنه فعال لما يريد ، وهذا قوله تعالى:{ واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون( 163 )}( الأعراف ):وقال سبحانه:{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين( 65 )}( البقرة ) . فالله سبحانه عاقب الذين اعتدوا في السبت بأن سلط عليهم نزوات أهوائهم وشهواتهم ، وبها ضربت عليهم الذلة ، ولعنهم الله تعالى ، فكذلك هؤلاء الذين عاندوا وكفروا . وذلك أمر قدره الله عليهم فهم ملعونون في كل الأجيال والأزمان ، ولذا قال سبحانه:{ وكان أمر الله مفعولا}أي قد ثبت وتقرر أن أمر الله تعالى فيما يخبر به ، مقدر واقع لا محالة ، فلا مناص منه ، فهؤلاء الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم لهم أحد العذابين:إما سحقهم بالقتال الذي يولون فيه الأدبار ، وإما ضرب الذلة عليهم ولعنهم من الناس أجمعين . وإن ذلك محقق بعون الله ، وقد قال الزمخشري في هذا المقام:قد حصل اللعن ، فهم ملعونون بكل لسان ! والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ ، ألا ترى إلى قوله تعالى:{ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير( 60 )} ( المائدة ) .