{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
/م47
اشتملت الآية السابقة على دعوة أهل الكتاب ، وأنه إن ينتهوا يغفر لهم ما سلف ، وعلى إنذار شديد في الدنيا بإجلائهم وقتلهم أو لعنهم من الناس أجمعين ، وفي هذا النص الكريم فتح لباب المغفرة التي كتبها الله على نفسه لعباده ؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة ، ومعنى النص:إن الله تعالى ليس من شأنه أن يغفر لمن يشرك به في العبادة أو الربوبية ، لأن الشرك انحراف شديد لا يقبل الغفران ، إلا أن يعود إلى التوحيد المطلق بعد الإشراك . والإشراك نوعان:إشراك في الإنشاء والتكوين أو العبادة ، كأولئك الذين يعتقدون أن الكواكب لها دخل في الإنشاء ، وكأولئك الذين يعبدون غير الله ، وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى وحده هو الذي خلق وأنشأ وكون ، ويعبدون الأوثان لأنها في زعمهم تقربهم إلى الله زلفى . والنوع الثاني من الإشراك أن يتركوا كتب الله تعالى ، ويعرضوا عنها ، ويتخذوا دينهم من الأحبار ، ولو غيروا فيه وبدلوا ، زاعمين أنهم لا يتكلمون إلا عن الله تعالى ، وإن كان الكتاب يخالف قولهم ، ومن هؤلاء من أشار الله تعالى إليهم بقوله تعالى:{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون( 31 )}( التوبة ) .
فهذا النوع من الإشراك لا يقل خطرا عن الشرك في العبادة ، لأن الله وحده هو الذي أنشأ الكون ، وهو وحده الذي يشرع لعباده ، وبين لهم أوامره ونواهيه ، وليس لأحد أن يتكلم عنه إلا أن يكون رسولا منه إلى العالمين ، فمن اتخذ غير الرسول طريقا لمعرفة شرع الله من غير كتاب الرسول وكلامه فقد أشرك بالله .
وقد ذكر سبحانه أنه لا يغفر ذلك ، وأكد عدم الغفران لهذه الحال ب( إن ) التي تفيد التوكيد ، فلا يرجوا مشرك غفرانا ، أيا كان نوع الشرك ، إلا أن يقلع عنه ، فإن الله تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا .
وقد ذكر سبحانه أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء ، وما دون الشرك يكون من مرتكب الكبيرة أو الصغيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن آمن بالأنبياء السابقين قبل أن تنسخ شريعتهم بالشريعة المحمدية ، فإن هؤلاء قد وعد سبحانه وتعالى فضلا منه ومنة على عباده أن يغفر لهم ما يشاء لمن يشاء من عباده . ذلك أن من يرتكب الكبيرة إن تاب عنها غفرها الله تعالى ، وإن لم يتب ولم تحط الخطايا بنفسه ، وله حسنات ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وفي ميزان الله تعالى العادل يوم القيامة توزن الحسنات والسيئات ، فمن ثقلت كفة حسناته فأولئك هم المفلحون .
ومشيئة الله تعالى هي مشيئة الحكيم الخبير ، الذي يضع كل أمر في موضعه ، ولا يظلم ربك أحدا .
{ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما}الافتراء هنا معناه الكذب الشديد لذي يؤدي إلى الفساد ، جاء في مفردات الراغب:الفرى قطع الجلد للخرز والإصلاح ، والإفراء للإفساد ، والافتراء فيهما ، وفي الإفساد أكثر ، وكذلك استعمل القرآن في الكذب والشرك والظلم نحو:{ ومن يشرك بالله افترى إثما عظيما} فمعنى ( فقد افترى إثما عظيما ) فقد كذب كذبا فيه ظلم وفيه إفساد وضلال ، وكان ذلك كله إثما عظيما .
فالشرك يتضمن الكذب على الله تعالى بادعاء شريك له تعالى ، ويتضمن ظلما ؛ لأنه اعتداء على المستحق للعبادة وحده ، وهو فساد النفوس . و( افترى ) هنا تضمن قولا كذبا ، وفعلا ظالما ، وتضمن أعظم ذنب في الوجود ، لأنه اعتداء على رب العالمين . وقد يقول قائل إن الافتراء أكثر ما يكون باللسان ، فكيف يقال "فقد افترى إثما عظيما"؟ والجواب عن ذلك الافتراء بالنسبة للشرك لما تضمنه من أفعال ، اعتبر في ذاته ارتكابا لأعظم ذنب في الوجود . اللهم جنبنا الشرك ما ظهر منه وما خفي ، واجعلنا من عبادك المخلصين .