قوله تعالى: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) في هذه الآية تأكيد على أن غفران الله وعفوه لا يصيبان من قارف جريمة الشرك .والله سبحانه قد يتجاوز عن المسيء بالغا من العصيان والإساءة ما بلغ إلا أن يقارف شركا ،ذلك أن ( الشرك لظلم عظيم ) .وفي هذه الآية دلالة واضحة على المغفرة يمتن الله بها على العصاة الذين يسقطون في المعاصي والكبائر كيفما كانت مادامت لا تصل إلى الشرك ،وثمة دلالة أخرى هي أن الذنوب جميعا على اختلافها وتفاوتها في الصغر والكبر إنما هي دون الجريمة الفظيعة الكبرى وهي الشرك بالله .فقد روى الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله ( ص ) قال:"ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة "قلت: وإن زنى وإن سرق "قال وإن زنى وإن سرق قلت: وإن زنى وإن سرق "قال وإن زنى وإن سرقثلاثا .ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر "فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر .
وأخرج البزار عن أنس بن مالك عن النبي ( ص ) قال:"الظلم ثلاثة ،فظلم لا يغفره الله ،وظلم يغفره الله ،وظلم لا يترك الله منه شيئا: فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ،وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ،وأما الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض .وعن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم قال:"أن تجعل لله ندا وهو خلقك ".
والشرك بالله يأتي على ضروب وصور أشدها وأعتاها اتخاذ إله آخر مع الله كأن يكون الإله صنما من الأصنام التي يقدسها وينحني لها المشركون في خضوع .أو أن يكون حاكما جبارا من الجبابرة في الأرض الذين يستخفّون الناس فيفرضون عليهم طاعتهم وعبادتهم مثلما كان عليه ملوك مصر الفراعنة أو النمروذ خصيم إبراهيم في العراق .
أو أن يكون جزءا من الطبيعة والكون كمن يجسد للشمس أو القمر أو البحر أو النهر .أو كمن يذهل في إفراط وهو يغمره الشوق والحنين لبلده مسقط رأسه فيقدس أحجاره وترابه تقديسا يصل بالمشتاق المتلهف درجة التقديس والعبادة .
ومن ضروب الشرك كذلك أن تنطمس معالم التقوى والإيمان من الإنسان في زحمة الصراع مع الهوى والشهوات حتى يصير إلى كائن منغلق عن الخير ومشدود إلى الدنيا وحطامها وزخرفها كمن يؤثر المال على العقيدة والمبدأ .وتلك مرتبة من مراتب الشرك يرتكس فيها الإنسان ارتكاسا مقبوحا يودي به إلى التلبس بوصمة الشرك والكفران .
ومن ضروبه كذلك الرياء ولكنه ضرب من نوع أصغر .وهو أن تنثني نية الإنسان في عمله دون مرضاة الله لتتجه لإرضاء البشر وذلك هو الشرك الأصغر الذي كان النبي ( ص ) يحذر أمته منه وأنه أخوف ما كان يخاف منه على أمته .ومما هو جدير بالبيان هنا حقا ذلك الضرب من الشرك الذي غفل عنه معظم الناس في هذا الزمان وفي غالب الأزمان .وتلكم هي طاعة الحاكم الذي نبذ شرع الله واتخذه وراءه ظهريا والذي تعمد أن يقصي شرع الله عن ساحة البشر لكي يقيم مقامه شرعا وضعيا بعيدا عن منهج الله .وتلك جريمة بالغة كبرى تنطوي على التنكر لدين الله وإبعاده عن واقع التطبيق وإبداله بتشريع من صنع البشر وهو في تصوّر الإسلام جحود ونكران يصم صاحبه بالكفر الصريح لقوله سبحانه: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) لكن الأفراد والرعية الذين يسارعون لطاعة الحكام في تشريعهم البديل هم منحرفون عن صراط الله ومنهجه فلا غرابة بذلك أن تلحقهم وصمة الإشراك بالله .ذلك أنهم عبدوا الساسة والحكام الذي يشرعون للبشر على غير ما أنزل الله .وفي تصوّر الإسلام أن من أحلّ ما حرّم الله أو حرّم ما أحلّ الله أو عمل على تعطيل شرع الله لإبداله بشرع آخر فقد شرّع وهو يعني أنه جاء بشرع من عنده بدلا من شرع الله .أما الرعية وعامة القوم الذين يلهثون في خسة وذلة وراء الساسة المارقين المعطلين لشرع الله الرافضين لمنهجه ،فقد سقطوا في ظلام الشرك ،قال الله سبحانه في النصارى الذين أطاعوا الأحبار والرهبان عندما أحلوا لهم الحرام وحرّموا عليهم الحلال: ( اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ) .
قوله: ( ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) من اكتسب الشرك فقد تلطخ بأنكر الآثام وأشدها عتوا .وإثم الشرك- كما بينا- لهو من الفظاعة والنكر بما يصغر دونه أي ذنب أو جريرة مهما كانت .فقد أخرج أبو يعلى في مسنده عن جابر أن النبي ( ص ) قال:"لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب "قيل: يا نبي الله وما الحجاب ؟قال:"الإشراك بالله .ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى إن شاء أن يعذبها وإن شاء أن يغفر لها ".