قوله تعالى: ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ) .المراد من ذلك اليهود فهم الذين كانوا يزكون أنفسهم .لكن نوع التزكية لأنفسهم كان موضع خلاف المفسرين .فقد قيل أنهم زكّوا أنفسهم بقولهم: ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) وقيل بقولهم: ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) وقيل: قولهم نحن كالأطفال في عدم الذنوب .فما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل .وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار .فهذا الذي زكوا به أنفسهم .وأحسن ما قيل في ذلك هو ثناء بعضهم على بعض فيكيلون لأنفسهم أو لبعضهم بعضا أفرادا وجماعات كل معاني الإطراء والثناء{[772]} .
والتزكية هي التطهير .ويتم ذلك بامتداح النفس أو الغير بما ينفي عنه النقائص والعيوب والذنوب{[773]} .
ومع أن الآية نزلت في اليهود لتبرأتهم أنفسهم من العيوب ولتظاهرهم بالإخلاص والقرب من الله وأنهم متميزون عن غيرهم بمحبة الله لهم وأن ذنوبهم مغفورة- فإنه مع ذلك كله تفيد الآية النهي عن تزكية الإنسان نفسه .وقد جاء في ذلك قوله سبحانه: ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) ولا يزكي أحد نفسه إلا من كان من أهل الرعونة والخيلاء وذلك خلق ذميم يجلب سخط الله ويبطل الأعمال لتكون هباء منثورا .
ومن جهة أخرى فإن الآية توجب ألا يمدح أحد غيره .فإن كان ذلك حال غياب الممدوح محظورا فلا جرم أنه حال شهوده أشد سوءا ونكرا وفي صحيح مسلم عن المقداد قال ( ص ):"أن أحثوا في وجوه المدّاحين التراب "وفي الصحيحين عن عبد الرحمان بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله ( ص ) سمع رجلا يثني على رجل فقال:"ويحك قطعت عنق صاحبك "ثم قال:"إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا ".وأخرج الإمام أحمد عن معاوية أن النبي ( ص ) كان يقول:"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإن هذا المال حلو خضر ،فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه ،وإياكم والتمادح فإنه الذبح ".ولعل من الأنسب أن يتكيف الحكم بحسب الممدوح على أن تكون التزكية قائمة على الحق والصدق .أما إن كانت التزكية لا أساس لها من الحق والصدق فذلك حرام ومحظور .وعلى هذا فإن امتداح المرء بما فيه من حميد الخصال جائز ان كان الممدوح متين العزيمة والإيمان لا يزيده الثناء والإطراء إلا حبا في الخير وفعله .فهو إذا أطري بما هو أهله ازداد بذلا وعطاء وكان في ذلك ما يشجّع الآخرين على فعل الخير ويحرّضهم على الأفعال النافعة السديدة والإكثار من بذل الخير .لا جرم أن ذلك مرده إلى النوايا .فإن قصد إطراءه بما هو أهله تحريضا له على الإكثار من البر جاز{[774]} .( والله يعلم المفسد من المصلح ) .
قوله: ( بل الله يزكي من يشاء ) الله جلّت قدرته أعلم بالمتقين المتزكّين ذوي النوايا السليمة والأخلاق الكريمة الحميدة .فإن المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل فهو أعلم بخفايا الأسرار وحقائق الأمور .
قوله: ( ولا يظلمون فتيلا ) الفتيل هو الخيط الذي يكون في شق نواة التمرة .
وقيل: الفتيل هو ما يتكون من أوساخ مفتولة بين الكفين إذا تفاركا بشدّة{[775]} .