{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا( 49 ) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا( 50 ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا( 51 ) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا( 52 ) أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا( 53 )} .
/م49
{ ألم تر} ، هذا تعبير قرآني فيه استفهام دخل على النفي ، وهو استفهام إنكاري يتضمن معنى النفي ، فهو نفي داخل نفي . ومؤدى الكلام:قد نظرت إلى الذين يزكون أنفسهم متعجبا من حالهم مستغربا أمرهم . ورأى هنا معناه نظر ، ولذلك تعدت ب"إلى". وتزكية تطلق بمعنى تطهيرها وإبعادها عن دنس المعصية ، وقد تطلق على الفعل المحمود . والمراد هنا أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة ، وليسوا بمستحقيها ، وقد يدعون أنهم يطهرون أنفسهم ، ويبعدونها عن الدنس في نظرهم ، وليسوا كذلك . وأصل التزكية كما ترى من زكاء النفس جاء في مفردات الراغب:( زكاء النفس طهارتها ، يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة ، وفي الآخرة الأجر والمثوبة ، وهو بأن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره ، وذلك ينسب تارة إلى البعد لكونه مكتسبا ذلك ، نحو{ قد أفلح من زكاها( 9 )}( الشمس ) وتارة إليه تعالى لكونه فاعلا في الحقيقة نحو{ بل الله يزكي من يشاء} .
وتزكية اليهود والنصارى لأنفسهم تحتمل أمرين:أولهما:أنهم يصفون أنفسهم بالطهارة والتقوى ، وتحرى ما يربى التقوى في النفس ، ويستطيلون على الناس بذلك . والأمر الثاني:أن يدعوا أنهم بأعمالهم واتخاذهم ما هم عليه مذهبا يطهر النفس ، أي يدعون أنهم يسلكون سبيل الهداية وتطهير النفس . والأمر الأول هو الذي عليه جمهور المفسرين ، وهو أوضح ويتفق المأثور من أسباب النزول ، فقد تضافرت المرويات عن التابعين على أنهم كانوا يدعون أنهم المغفور لهم دائما .
وقال الضحاك والسدّي إنهم كانوا يقولون:( لا ذنوب لنا ، وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا . وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا ، ونحن كالأطفال ) . وقد رد الله تعالى ذلك بقوله:{ بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا} .
على تفسير تزكيتهم أنفسهم بمعنى أنهم يدعون أنهم بأفعالهم يطهرونها ، يكون المعنى أن الله تعالى رد عليهم ادعائهم أن ما هم عليه تطهير لأنفسهم ، فبين أن الله تعالى هو الذي يطهر النفوس ويزكيها ، لأنه هو الذي يبين طريق الهداية ، وقد بين ، فما أنتم عليه ضلال في ضلال . وعلى الاحتمال الراجح ، وهو أنهم يصفون أنفسهم بالأوصاف الحميدة ، وأنهم أهل المغفرة ،{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى . . .( 111 )}( البقرة ) ، وقولهم:{. . .نحن أبناء الله وأحباؤه . . .( 18 )}( المائدة ) على هذا الاحتمال يكون المعنىأن الله تعالى هو وحده الذي يصف أفعال عباده بالخير أو الشر ، لأنه وحده الذي رسم طريق الخير وطريق الشر . وإن تزكيته سبحانه تقتضي رحمته وغفرانه ، وأن يجزى الجزاء الأوفى . فليصفوا أنفسهم بما شاءوا ، وليمنوا أنفسهم الأماني بأنهم لا ذنوب لهم ، أو أنها تمحى فور ارتكابها ، فكل ذلك من مزاعمهم ، والله وحده هو الذي يصف الأفعال المحمودة والأفعال المذمومة ، ويعطي عليها الثواب أو العقاب ، ولذلك قال سبحانه من بعد ذلك{ ولا يظلمون فتيلا} ، أي لا ينقصون أي قدر مهما ضؤل ولو كان بقدر الفتيل ، وهو الخيط الذي يكون في شق نواة التمر ، وقيل القشرة التي تكون حول النواة ويطلق على ما يفتل من خيوط دقيقة ، والمعنى:لا ينقصون أي قدر من أعمالهم ، ولو كان كأصغر الأشياء التي لا يلتفت إليها ، ولا يتجه النظر نحوها ، ولكن الله تعالى عليم بكل شيء وكل شيء في كتاب{. . .لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . . .( 49 )}( الكهف ){ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره( 7 ) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره( 8 )}( الزلزلة ) .