كانت اليهود تفاخر مشركي العرب وغيرهم بنسبهم ودينهم ويسمون أنفسهم شعب الله وكذلك النصارى .وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم{ نحن أبناء الله وأحباؤه} [ المائدة:18] وقولهم:{ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} [ البقرة:111] وقول اليهود خاصة{ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} [ البقرة:80] وكل هذا من تزكيتهم لأنفسهم وغرورهم في دينهم .وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب فأنزل الله فيهم:{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك .قاله السيوطي في لباب النقول .
أقول:وروى ابن جرير أيضا سبب نزولها تزكيتهم لأنفسهم بالآيات التي أشرنا إليها آنفا .وروي عن السدي أنه قال نزلت في اليهود قالت اليهود إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل ، وذكر روايات أخرى ورجح أن تزكيتهم لأنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا وأنهم أبناء الله وأحباؤه أما معنى{ ألم تر} فقد ذكر قريبا والاستفهام للتعجيب من حالهم .وتزكية النفس تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية أي طاهرة كثيرة الخير والبركة وأصل الزكاء والزكاة النمو والبركة في الزرع ومثله كل نافع فتزكية النفس بالفعل عبارة عن تنمية فضائلها وخيراتها ولا يتم ذلك إلا باجتناب الشرور التي تعارض الخير وتعوقه وهذه التزكية محمودة وهي المرادة بقوله تعالى:{ قد أفلح من زكاها} [ الشمس:9] أي نفسه .وتكون بالقول وهو ادعاء الزكاء والكمال ومنه تزكية الشهود وقد أجمع العقلاء على استقباح تزكية المرء لنفسه بالقول ومدحها ولو بالحق ولتزكيتها بالباطل أشد قبحا وهذا هو المراد هنا ، وهذا النوع من التزكية مصدره الجهل والغرور ومن آثاره العتو والاستكبار عن قبول الحق والانتفاع بالنصح .
وقد ردّ الله عليهم بقوله:{ بل الله يزكي من يشاء} أي ليست العبرة بتزكيتكم لأنفسكم بأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم لا تعذبون في النار وأنكم ستكونون أهل الجنة دون غيركم وأنكم شعب الله المختار بل الله يزكي من يشاء من عباده من جميع الشعوب والأقوام بهدايتهم إلى العقائد الصحيحة والآداب الكاملة الصالحة أو شهادة كتابه لهم بموافقة عقائدهم وآدابهم وأخلاقهم وأعمالهم لما جاء فيه{ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [ النجم:32] .
{ ولا يظلمون فتيلا} أي ولا يظلم الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه شيئا مما يستحقونه بأعمالهم ولو حقيرا كالفتيل ، وقد بينا من قبل أن أصل الظلم بمعنى النقص ، أي لا ينقصهم من الجزاء على أعمالهم الحسنة شيئا بعدم تزكيته إياهم لأن عدم تزكيتهم إنما تكون بعدم إتباعهم لما تكون به النفس زكية من هداية الدين والعقل ونظام الفطرة .والفتيل ما يكون في شق نواة التمرة مثل الخيط وما تفتله بين أصابعك من وسخ أو خيط وتضرب العرب به المثل في الشيء الحقير فهو بمعنى{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [ النساء:40] وتقدم تفسيره من عهد قريب .فخذلان الملوثين برذيلة الشرك في الدنيا بالعبودية لغيرهم وغير ذلك من آثار انحطاطهم ، وعذابهم في الآخرة وحرمانهم من نعيمها ، لا يكون بظلم من الله عز وجل لهم ، ونقصه إياهم شيئا من ثواب أعمالهم ، وإنما يكون بنقصان درجات أعمالهم ، وعجزها عن العروج بأرواحهم ، بل بتدسيتها لنفوسهم ، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل{ ولكل درجات مما عملوا} [ الأنعام:132] كدرجات الحرارة في ميزانها ودرجات الرطوبة في ميزانها ، فما كل درجة من الأولى يغلي بها الماء ، ولا كل درجة منها يكون بها جليدا ، ولا كل درجة من الثانية ينزل بها المطر ، وكدرجات امتحان طلاب العلوم في المدارس ، أو الأعمال في الحكومة لا ينال الفوز إلا بالدرجات العلى المحدد أدناها وأعلاها بالحكمة .
والآية تدل على أن الله تعالى يجزي كل عامل خير بعمله وإن كان مشركا لأن لعمله أثرا في نفسه يكون مناط الجزاء فإذا لم يصل تأثير عمل المشرك إلى الدرجة التي تكون بها النجاة من العذاب البتة فإن عمله ينفعه بكون عذابه أقل من عذاب من لم يعمل من الخير مثل عمله ، مثال ذلك في الدنيا رجلان يشربان الخمر أحدهما مقل والآخر مكثر فضرر المكثر يكون أكبر من ضرر المقل ، وآخران متساويان في الشرب ولكن بنية أحدهما قوية تقاوم الضرر أن يفتك بالجسم وبنية الآخر ضعيفة لا تستطيع المقاومة فإن ضرر هذا من الشرب يكون أشد من ضرر ذاك .كذلك الروح القوية السليمة الفطرة الصحيحة الإيمان المزكاة بالعمل الصالح لا تهبط بها السيئة الواحدة والسيئتان إلى درجة الأشرار الفجار فتجعلها شقية مثلهم لا يغلب خيرها على الشر الذي يعرض لها فيزيله أو يضعفه حتى يكون ضررها غير مهلك ، ومنه تعلم أن بعض المؤمنين الصالحين قد يعذب في الدنيا والآخرة بذنبه ولكنه لا يكون من الهالكين الخالدين .
والعبرة بهذه الآية وما قبلها للمسلمين هي وجوب اتقاء ما هم عليه من الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما قبله وما بعده بقرون ، واتقاء مثل ما كانوا عليه من تزكية أنفسهم بالقول واحتقار من عداهم من المشركين الذي انجرّ إلى احتقار المسلمين عند ظهور الإسلام حتى كانت عاقبة ذلك الغرور وتلك التزكية الباطلة في الدنيا أن غلبهم المسلمون على أمرهم ، واستولوا على أرضهم وديارهم وليعلموا أن الله العظيم الحكيم لا يحابي في سننه المطردة في نظام خلقه مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا لأجل اسمه ولقبه أو لانتسابه بالاسم إلى أصفيائه من خلقه بل كانت سننه حاكمة على أولئك الأصفياء أنفسهم حتى أن خاتم النبيين صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم قد شج رأسه وكسرت سنه وردي في الحفرة يوم أحد لتقصير عسكره فيما يجب من نظام الحرب ، فإلى متى أيها المسلمون هذا الغرور بالانتماء إلى هذا الدين وأنتم لا تقيمون كتابه ولا تهتدون به ولا تعتبرون بما فيه من النذر ، ألا ترون كيف عادت الكرة إلى تلك الأمم عليكم بعد ما تركوا الغرور واعتصموا بالعلم والعمل ، بما جرى عليه نظام الاجتماع من الأسباب والسنن ، حتى ملكت دول الأجانب أكثر بلادكم ، وقام اليهود الآن ليجهزوا على الباقي لكم ، ويستردوا البلاد المقدسة من أيديكم ، ويقيموا فيها ملكهم ؟ ؟ ؟ فاهتدوا بكتاب الله الحكيم وبسننه في الأمم واتركوا وساوس الدجالين الذين يبثون فيكم نزغات الشرك فيصرفونكم عن قواكم العقلية والاجتماعية وعن الاهتداء بكلام ربكم على الاتكال على الأموات ، والاستمساك بحبل الخرافات ، ويشغلونكم عن دينكم ودنياكم بما لم ينزله الله تعالى عليكم من الأوراد والصلوات ، وما غرضهم بذلك إلا سلب أموالكم ، وحفظ جاههم الباطل فيكم ، أفيقوا أفيقوا ، تنبهوا تنبهوا ، واعلموا أن الله لم يظلم ولا يظلم أحدا فتيلا فما زال ملككم ، وذهب عزكم ، إلا بترك هداية ربكم ، وإتباع هؤلاء الدجالين منكم .