مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديقال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله( ص ) بأطفالهم ،قالوا: يا محمد ،هل على أولادنا هؤلاء من ذنب ؟قال: لا ،فقالوا: والذي نحلف به ما نحن إلاّ كهيئتهم ،ما من ذنب نعمله بالنهار إلاّ كفّر عنا بالليل ،وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار ،فهذا الذي زكّوا به أنفسهم .
وقيلكما جاء في مجمع البيان: نزلت في اليهود والنصارى حين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ،قالوا: لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى عن الضحاك والحسن وقتادة والسدّي ،وهو المرويّ عن أبي جعفر الباقر( ع ) .
ونلاحظ على الرواية الأولى ،أننا لا نفهم كيف أن اليهود المعادين للإسلام وللرسول ،يأتون إلى النبي محمد( ص ) ليسألوه عن مصيرهم في الآخرة بلحاظ أعمالهم في النهار أو الليل بما يكفر عنهم الذنب الذي فعلوه في الوقت الآخر ،لتكون النتيجة أنه لا يبقى عليهم أيّ ذنب في نهاية المطاف ،في الوقت الذي لا يزالون فيه على دينهم ،مما يجعل الرواية بعيدةً عن طبيعة الأمور .
أمّا الرواية الثانية فهي الأقرب إلى جوّ الآية ،باعتبار أن اليهود والنصارى كانوا في ذلك الوقت ،وربما في مراحل أخرى ،يتحدثون بهذه الطريقة التي يرون فيها أنهم ،وحدهم القريبون إلى الله وأنهم يدخلون الجنة دون غيرهم ،ولكن مهما كانت المناسبة التي أطلقت حركة الآية في أجواء نزولها ،فإنها لا تختص بهذه المناسبة بل تمتد إلى كل النماذج الإنسانية التي تعيش في داخلها الإحساس المرَضيَّ بعقدة التعاظم الذاتي الذي يوحي إلى الإنسان بالإعجاب والرضا بالمواصفات الشخصية التي يملكها في نفسه وفي حياته ،لأن سبب النزول يمثل المنطلق للفكرة لا المدى المحدود الضيق فيها .
ربما كانت هاتان الآيتان امتداداً للحديث الذي بدأه القرآن في هذا الفصل عن اليهود ؛فقد ذكر في آيات أخرى ،أنهم يدّعون أنهم أبناء الله وأحبّاؤه ،وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة ،وأنهم أولياء الله من دون الناس ،إلى غير ذلك من الكلمات التي كانوا يزكون فيها أنفسهم ،فيعتبرونها في موقع السموّ والرفعة ،ليوحوا لأنفسهم بعقدة الاستعلاء ويعمقوها في وعي أجيالهم المقبلة من أبنائهم وأحفادهم ،وليثيروا هذا التصور في أعماق الشعوب الآخرى ،لتستكين لهم ولتخضع لطموحاتهم وأطماعهم .وجاءت الآية الأولى لتوجه الإنسان إلى التطلّع نحوهم لمراقبتهم في كلماتهم وأوضاعهم ومواقفهم وطريقتهم في ممارسة العلاقات مع الآخرين ،ليفحص هذا الزيف الذي يحاولون أن يصوّروه بصورة الحقيقة ؛فهم لا يعيشون الملامح الحقيقية للصفات التي ينسبونها لأنفسهم ،بل هم بشر كبقية البشر الآخرين ،بل قد يكون لغيرهم من الصفات الطيبة ما ليس لهم ،ممن عاشوا الحياة من موقع الصفاء والطهر والبساطة ،ولم يعيشوها من موقع الخبث والتعقيد .
وقد دعت الآية كل إنسان إلى أن يرى بعينيه الحقيقة{أَلَمْ تَر}لتترك لكل فرد مجال الحكم من خلال التأمّل والدراسة ،ليحصل على المعلومات الحية في ما يراه ويتأمّله ويقتنع به وقد نلمح في جو الآية بعض الإيحاء بالأسلوب الذي يدعو الناس إلى رفض هؤلاء الناس ومحاولة اكتشاف الزيف الذي تغطيه ظواهر حالهم .
وإذا كانت النقطة التي انطلقت منها الآية تتركز على النموذج اليهودي من الناس ،فإن المبدأ لا يقف عندها ،بل يمتد إلى كل النماذج التي تحاول أن تجعل لنفسها امتيازاً على الناس الآخرين ،من خلال الخصائص القومية والإقليمية واللونية والنسبية .وربما نستوحي من ذلك امتداد الموضوع إلى أبعد من هذا ،فنلتقي بالأفراد الذين يرون لأنفسهم بعض الامتيازات التي تسمح لهم بالاستعلاء على الآخرين .إن الآية ترفض ذلك كله ،{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} فلا امتياز لأحد على أحد إلا من خلال الميزات الحقيقية في العلم والعمل وغيرها من صفات الذات ،مما يعلمه الله ويعلم مواضعه ،{بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ} وبذلك فإن الله هو الذي يزكي من يشاء ،لأنه هو الذي يعلم واقع الأشياء في العمق والامتداد ؛فقد يكون لبعض الأشخاص صفات لا يملكها الآخرون ،ولكن ذلك لا يبرّر لهم الشعور بالامتياز ،لأن هؤلاء الآخرين قد يملكون من الصفات المميزة ما لا يملكه هؤلاء الأشخاص ؛فإن الله لم يجمع كل الميزات بشكل مطلق في فرد أو شعب أو عنصر أو أمة دون سائر الأفراد أو الشعوب أو العناصر أو الأمم ،بل اقتضت حكمتهسبحانه وتعالىأن يعطي لكل أمة خصائصها التي يمكن أن لا تكون موجودة عند أمة أخرى ،والأمر بالعكس لدى هذه الأمة ،وعلى هذا الأساس فإننا لا نعتبر أن هناك أمة أعلى من أمة أخرى ،بل إن المبدأ القرآني هو الذي عبّرت عنه الآية الكريمة{يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [ الحجرات:13] .
وبذلك لا ينبغي لأحد أن يزكي نفسه ،بل يحاول أن يقوم بواجبه في تنمية صفاته الطيبة ومواقفه العملية المميزة ،ليقف بين يدي الله من موقع خصائصه الذاتية الحقيقية ،لينال تزكيته ورضاه ،وليحصل على نتائج عمله ؛{وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} فإنّ الله لا يظلم الناس من أعمالهم شيئاً ،ولو بمقدار الفتيل الذي هو عبارة عمّا يكون في شق النواة ،أو بطنها ،أو النقطة التي تكون عليها ،بل ربما نفهم من جو الآية ،أن على الإنسان أن يتواضع في كل مجالات عمله ،وفي كل خصائصه ،ويقف موقف الناقد لكل ذلك ليستطيع القيام بدور أكبر وأكثر جودة وإتقاناً وتركيزاً ،عندما لا يثق بتقييمه للأشياء وللأعمال ،بل يترك الأمر لله الذي يعلم من خصائص الإنسان ما لا يعلمه هو عن نفسه .وهكذا تنطلق المشاعر في علاقة الناس ببعضهم البعض من الجانب الإنساني الذي يحترم في كل إنسان أو شعب خصائصه الإيجابية ؛كما ينظر بواقعية إلى الأوضاع السلبية التي يعيشها في نفسه .ولعل مثل هذه النظرة هي التي تبعد الناس عن الروح العدوانية المتكبّرة التي تثيرها مشاعر الاستعلاء والزهو الذاتي ،لينطلقوا جميعاً من مواقع النشاطات والأعمال التي يتدافع الناس للتسابق إليها في ميدان الحياة .