وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. استئناف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد، ولتأكيد وجوب امتثال الأمر بالإيمان، لأنه لا مغفرة إذا انتفى الإيمان.
والمراد بالشرك هنا:مطلق الكفر فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا.
والمعنى:إن الله لا يغفر لكافر مات على كفره، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصي لمن يشاء أن يغفر له إذا مات من غير توبة. فمن مات من المسلمين بدون توبة من الذنوب التي اقترفها فأمره مفوض إلى الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة.
وقوله وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك، وزيادة في تشنيع حال المشرك.
أى. ومن يشرك بالله في عبادته غيره من خلقه، فقد ارتكب من الآثام ما لا تتعلق به المغفرة، لأنه بهذا الإشراك قد افترى الكذب العظيم على الله، واقترف الإفك المبين، وفعل أعظم ذنب في الوجود:
قال القرطبي:قوله- تعالى-:إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فقال له رجل:يا رسول الله والشرك!! فنزل:إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. الآية. وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة.
وقوله وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه.
فقال ابن جرير الطبري:قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة فهو في مشيئة الله إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله- تعالى-» .
وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة ثلاثة عشر حديثا تتعلق بها.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع في الحجاب» قيل يا نبي الله وما الحجاب؟ قال:الإشراك بالله. ثم قرأ:إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. الآية.
وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ابن عمر قال:كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الآية:إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وفي رواية لابن أبى حاتم:فلما سمعناها كففنا عن الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله- تعالى-» .
وقال الآلوسى:ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة- الذين يسوون بين الإشراك بالله وبين ارتكاب الكبيرة بدون توبة- يرد بها أيضا- على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه مخلد في النار. وذكر الجلال أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين:إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون.
وأخرج ابن الضريس وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال:كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم قوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وقال:
«إنى ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتى فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا» . وقد استبشر الصحابة بهذه الآية حتى قال على بن أبى طالب:أحب آية إلى في القرآن إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.