{ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه}
/م44
هذه طائفة من أعمال اليهود في استماعهم لدعوة النبي إلى الحق ، وإلى صراط الله المستقيم ، وقد ذكر سبحانه أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ، فقوله تعالى:{ من الذين هادوا يحرفون} فيه مبتدأ محذوف يقدر بفريق ، والتحريف معناه الإمالة وجعل الكلام محتملا غير معناه .
جاء في مفردات الراغب الأصفهاني:تحريف الكلام أن جعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين . قال عز وجل:{ يحرفون الكلم عن مواضعه}ومن بعد مواضعه:{. . .وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( 75 )}( البقرة ) .
وهذا الفريق ليس تحريفه هو التحريف العام الذي وقع من اليهود في تأويل كتبهم وإهمال كثير منها ، وإخفائهم التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إنما تحريفهم هو حمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على غير وجهه ، وجعله يحتمل ما لا يراد به ، كما سنبين ، هذا الفريق هو الذي قال الله تعالى فيه:{ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( 75 )}( البقرة ) .
فهذا الفريق لا يكتفي بما فعله أسلافه وما يتحمل وزره الذين يعلمون الكتاب المنزل من قبل ويكتمونه ، بل إنه يجعل كلام النبي صلى الله عليه وسلم منحرفا في أذهانهم الملتوية عن حقيقة معناه ، ويتهكمون عليه ، ويحملونه بأغراضهم الفاسدة ما لا يحتمل المعاني ، ولا يكتفون بذلك التحريف ، بل يجمعون معه النطق بالعصيان عند السماع ، وقد قال الله سبحانه عن تلقيهم لأحكام الشرع التي يبينها النبي صلى الله عليه وسلم:
{ ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع}وإن حال هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، كما حرف أسلافهم كتبهم ، إنهم إذا سمعوا ما أنزل على الرسول لا يستمعون ليتبعوا الحق إن ظهرت بيناته ، بل يستمعون على نية الرد ، والاستمرار في العناد ، وسد كل أبواب الهداية لكيلا تصل إلى قلوبهم ، فإذا سمعوا الرسول يدعو إلى الحق ، وإلى صراط مستقيم جمجموا في أنفسهم{[741]} أو غمزوا به فيما بينهم قائلين:{ سمعنا وعصينا}أي سمعنا قولك ووعيناه ، وعصينا ما تدعونا إليه ، وإن كان الحق الذي لا مرية فيه ، ولا توجد نفس أوغلت في العناد بأكثر من ذلك ! ! وإنهم يردفون ذلك القول العاصي الذي يرددونه فيما بينهم بكلام من جنسه فيقولون:{ واسمع غير مسمع}وقولهم{ واسمع} المراد به إسمع صدى دعوتك لنا وردنا عليها ، وقد ذكر الزمخشري أن كلمة{ غير مسمع}تحتمل ثلاثة وجوه:أولها:أن يكون المعنى الدعاء على النبي الكريم بأن يصاب بالصمم فلا يسمع ، أو لا يسمع خيرا قط . والوجه الثاني:أن يكون المعنى غير مسمع كلامك فلا يجاب ولا يقبل . والوجه الثالث:ما ذكره بقوله رضي الله عنه:"ويجوز أن يكون غير مسمع مفعول اسمع أي اسمع كلاما غير مسمع إياك ، لأن أذنيك لا تعيه نبوا عنه"، وإنا نختار ما عليه أكثر المفسرين ، وهو أن يكون مرادهم لعنهم الله الدعوة عليه ، عليه الصلاة والسلام بعدم السماع ، وذلك هو الذي يتفق مع ما عرف عنهم من حقد وحسد للناس على ما آتاهم الله من فضل ، وما أودعت نفوسهم من بغض للناس وكره لهم ، لحسبانهم أنهم المستحقون للتكريم والرفعة وحدهم بزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، زادهم الله خزيا في الدنيا ، وعذابا في الآخرة ، وزاد الله محمدا صلى الله عليه وسلم وشريعته رفعة وتكريما وإعزازا . وإن هؤلاء لعنهم الله يلوون ألسنتهم طعنا في الدين ، ولذلك حكى الله عنهم ذلك فقال:
{ وراعنا ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين}بدل أن يعبروا في خطابهم بقولهم:"انظرنا"نظرة رعاية ومحبة طالبين منه الإقبال عليهم ، وإن كان ذلك موجودا ، يقولون{ وراعنا}:يفتلون بها ألسنتهم ويحولونها عن المعنى الظاهر لها إلى معنى غير قويم ولا مستقيم ، وهو رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرعونة والسفه ، ويطعنون بذلك في الدين الذي يدعو إليه ، والحق الذي ينفذه . وقد جاء في مفردات الراغب في تفسير قولهم:( وراعنا ):"قال الله تعالى:{. . .لا تقولوا راعنا . . .( 104 )}( البقرة ) ،{ وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين} كان ذلك قولا للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم يقصدون رميه بالرعونة ، ويوهمون أنهم يقولون:( راعنا )أي ( احفظنا ) فهم ينطقون بالكلمة على أن النون من بنية الكلمة ، وليس ضمير المتكلمين ، وذلك لي اللسان وفتله ، والطعن في الدين .
{ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم}هذا بيان لما كان ينبغي ، والمعنى:لو ثبت لهم أنهم قالوا سمعنا الحق واتبعناه ، وكلام الرسول وأطعناه ، ولو قالوا للرسول إسمع إجابتنا دعوة الحق ، وانظر إلينا نظرة إقبال وعطف ورعاية من غير أن يلووا ألسنتهم ، ويحرفوا القول عن موضعه ، وما يدل عليه بظاهره ، لكان ذلك خيرا لهم ، إذ يفتح باب الهداية في قلوبهم ولا يطمس عليها ، ولا يكون ذلك الخزي والذل في الدنيا ، أدامه الله تعالى عليهم وبدلهم من أمنهم خوفا ، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ، ولكان ذلك خيرا لهم{ وأقوم}أي كان هذا هو الأمر القويم الذي يجب أن يسلكه العقلاء طلاب الهداية . وأفعل التفضيل ليس على بابه ، ومعناه أن يكونوا بلغوا من الاستقامة أقصاه ، ولكنهم ضلوا ضلالا بعيدا ، ولذلك قال سبحانه:
{ ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}استدراك مما كان ينبغي لهم ، أي أنهم لم يفعلوا ما ينبغي ، لأن الله تعالى لعنهم بأن طردهم من رحمته ، فبعدوا عن الهداية بسبب إصرارهم على الكفر ، وهم بذلك دخلوا في الكفر بإرادتهم ، وأوغلوا فيه حتى صار الكفر بالنبوات ديدنهم ، فغلقت أبواب الحق عليهم وطمس الله بصائرهم ، فلم تر الحق ولم تذعن له ، فلا يؤمنون ، أي ليس الإيمان من شأنهم بعد أن كان منهم ما كان ، ولكن الله تعالى بعدله وحكمته لا ينفي الإيمان عنهم نفيا مطلقا ، بل يقرر أن منهم من يؤمن ، ولكنه عدد قليل ، ولذا قال سبحانه وتعالى:( فلا يؤمنون إلا قليلا )أي إلا عددا قليلا لا يدخل في عموم اللعنة التي كتبها الله تعالى عليهم في جملتهم ، وهذا كقوله في آية:{ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون( 66 )}( المائدة )- هدانا الله تعالى إلى الحق .