التّفسير
جانب آخر من أعمال اليهود:
تعقيباً على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء الإِسلام ،وتشير إِلى جانب من أعمالهم ومواقفهم .
فتقول أوّلا: إِنّ أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق ،وتغيير حقيقة الأوامر الإِلهية: ( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ) أي أنّ جماعة من اليهود يحرفون الكلمات عن مواضعها .
وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي ،وقد يكون له جانب معنوي وعملي .
أمّا العبارات اللاحقة فتفيد أن المراد من التحريف في المقام هو التحريف اللفظي وتغيير العبارة ،لأنّه تعالى يقول بعد هذه الجملة: ( ويقولون سمعنا وعصينا )يعني بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا » يقولون «سمعنا وعصينا » وهذا يشبه تماماً كلام من يقول مستهزءً: «منك الأمر ومنّا عدم السماع » ،هذا والعبارات الأخرى في هذه الآية خير شاهد على هذا القول .
ثمّ يشير إِلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي والصلافة حيث يقول: إِنّهم يقولون: ( واسمع غير مسمع ) وبهذا الطريق يتوسل هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين ، مضافاً إِلى سلاح تحريف الحقائق والخيانة في إبلاغ الكتب السماوية التي كانت تشكل الوسيلة الحقيقية لنجاة ذلك الفريق وشعبهم من مخالب الطغاة الظلمة مثل فرعونيتوسلون بسلاح الإِستهزاء والسخرية الذي هو سلاح الأنانيين والمغرورين ووسيلة العتاة والمعاندين ،وربّما استخدموا مضافاً إِلى كل ذلك عبارات كان المسلمون المخلصون يرددونها أمام رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع تغييرات في معانيها تكميلا لإستهزائهم وسخريتهم ،مثل جملة «راعنا » التي معناها «تفقدنا وأمهلنا » وكان المسلمون الصادقون في صدر الإِسلام ومطلع الدّعوة المحمّدية يرددونها أمام النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليتمكنوا من سماع صوت النّبي وكلامه بنحو أفضل ،ولكن هذا الفريق من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإِيذاء النّبي ويسيئون استخدامها ويكررونها أمام النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهم يقصدون منها معناها العبري الذي هو «سمعنا غير مسمع » أو «أسمعنا لا سمعت » أو معناه العربي الآخر ،وهو ما يرجع إِلى الرعونة{[792]}الذي يعني الحمق ،قصداً منهم إِلى أن عمل النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )كانوالعياذ باللهخداع الناس واستغلال سذاجتهم .
وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم
والطعن في الدين الحق ،والشريعة الحقة: ( ليا بألسنتهم وطعناً في الدين ) .
( واللي على وزن الحي بمعنى الفتل ،مثل فتل الحبل وما شابهه ،ويأتي أيضاً بمعنى التغيير والتحريف ) .
( ولو أنّهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم ) أي أنّهم إِن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد ،ومعاداة الحق ،وسوء الأدب ،والجرأة والقحة وقالوا: سمعنا كلام الله وأطعنا ،فاستمع إِلى كلامنا وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إِدراكاً كاملا ،لكان ذلك من مصلحتهم ،وكان في ذلك منفعتهم ،وأكثر انسجاماً وتوافقاً مع العدل والمنطق والعدل والأدب .
( ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلا ) .
أي أنّهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة ،كيف ؟وقد ابتعدوا عن رحمة الله بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان ،وماتت أفئدتهم وتحجرت بحيث صار من المتعذر أن تخضع للحق ،وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة ،اللّهم إِلاّ بعضهم ممن يمتلك فؤاداً طاهراً وعقلا يقظاً ،فهؤلاء هم المستعدون للقبول بالحقائق ،والإِستماع إِلى نداء الحق والإِيمان به .
وقد اعتبر جماعة هذه الجملة من مغيبات القرآن وإِخباراته الغيبية ،لأنّهكما يخبر القرآن الكريم في هذه الآيةلم يؤمن من اليهود طوال التاريخ الإِسلامي ولم يذعن للحق إلا جماعة قليلة ،وأمّا غيرهموهم الأكثرية الساحقةفقد بقواوإِلى الآنعلى عدائهم الشديد ،وخصومتهم للإِسلام ،ولم يزالوا يكيدون له المكائد ،ويحيكون ضده المؤامرات .