مناسبة النزول
وقد جاء عن ابن عباس في قوله:{لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} [ النساء:46] ،«أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب ومالك بن دخشم ،كانا إذا تكلم رسول الله( ص ) لويا بلسانهما وعاباه »
{مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} هؤلاء هم اليهود الذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا .وقد حدثنا الله عنهم أنهم لا يواجهون القضايا من موقع مداليلها الحقيقية بصراحة ووضوح ،ولا يستقيمون في تعاملهم مع المبادىء والأشخاص والكلمات ؛بل يعملون على تحريف الأمورولا سيما الكلمات التي توحي بالمبادىء الصحيحةعن مواضعها ،بما يتناسب مع شهواتهم وأهدافهم .ولهذا ،فإن على المؤمنين أن يحذروا منهم ،حتى في الحالات التي يتحدثون فيها بكلام الله ،لأنهم سوف يستغلّون أجواء قداسة الكلمات ،وشعور الآخرين بأنهمأي اليهوديعرفون من كلام الله ما لا يعرفه غيرهم ؛وبذلك يضلّلون الناس باسم الهدى ،وهم لا يشعرون .وهذا أسلوبٌ قرآنيٌ يريد الله من خلالهأن يوحي للمؤمنين بأن يدرسوا طبيعة الأشخاص من مواقع تاريخهم وانتماءاتهم وعلاقاتهم ومواقفهم ،قبل الاستماع إليهم ،ليعرفوا من ذلك نوعية الأساليب التي يتبعونها في الدعوة والمعاملة والموقف ،ليحذروا مما يمكن أن يكون موقفاً للحذر في ذلك كله .
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} تلك هي حالهم في مواجهتهم للرسول( ص ) ؛فقد كانوا يقولون: سمعنا وأخذنا علماً بما تقول ،ولكننا لن نطيعك في ذلك كله .فكأنهم يحاولون بذلك أن يثيروا حالةً من الاستهزاء في إقرارهم بالسماع ،ويضيفون إلى ذلك قولهم: «اسمع ،لا أسمعك الله » ؛وهو معنى قولهم: راعنا في لغة اليهود ؛وكانوا يستعملونها للتمويه ،فهم يريدون منها المعنى بحسب لغتهم ،ولكن المسلمين يفهمون منها أنظرنامن المراعاةحتى يستوعبوا الكلام .وكانوا يلوون ألسنتهم بالكلام ،فيظهرون الباطل في صورة الحق ،ويوحون بالازدراء والسخرية والاستهزاء ،ويطعنون بالدين بذلك الأسلوب وبغيره ...{وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ ...} إنهم لا يطلبون لأنفسهم الخير ،فلا ينفتحون على دعوة الخير الموجهة إليهم بقلوبٍ مفتوحة وأفكارٍ واعيةٍ ،لأنهم أغلقوا مسامع قلوبهم وأفكارهم عن الخير كله .ولو طلبوا لأنفسهم الخير ،لكان قولهم عندما يسمعون كلام الله: سمعنا وأطعنا ،ولكان قولهم بدل كلمة «راعنا »: اسمع وأنظرنا ،حتى نتعرف عمق الكلام وسعته .{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} منهم ،أو إلاَّ قليلاً من الإيمان ،في ما ألزمهم الله به من مسؤوليات الكفر ونتائجه ؛والله العالم .