{ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما( 54 ) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا( 55 ) إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما( 56 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا( 57 )} .
الآية موصولة بما قبلها ، فالحديث في اليهود الذين ذهب بهم حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أن يقولوا وهم أهل الكتاب نزل عليهم من السماء وإن حرفوه ، إن المشركين أهدى إلى الحق وإلى الصراط المستقيم من المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين من بعده . وفي هذه الآية يبين سبب انحرافهم ، وجزاء الضالين يوم القيامة ، ثم جزاء المهتدين . والسبب الباعث على ضلالهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، ولذا قال سبحانه:
{ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} الحسد هو الألم الشديد لما يصيب الناس من خير ، وتمني زواله ، ثم العمل على زواله ، فهو يبتدئ بألم شديد يحز بالنفس الحاسدة ، ثم يصحبه تمني الزوال ، ثم يكون بعد ذلك بخس المحسود حظه وحقه ، والنيل منه ! والفرق بينه وبين الغبطة أن الغبطة السرور بما ينال الغير من خير ، وذلك وصف أهل الإيمان ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المؤمن يغبط والمنافق يحسد"{[742]} والحسد يذيب النفس ويذهب بفضائلها ، ولقد قال الحسن البصري:"ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد"وإن من يحسد إنما يعادي الله ويعادي نعمه ، لأنه كلماآتى الله أحدا نعمة نقمها على صاحبها ، فكأنما يعادي الله الذي أعطاها ، ويعاديها ، ولقد قال عبد الله بن مسعود:( لا تعادوا نعم الله ! قيل له:ومن يعادي نعم الله ؟ قال:الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) .
والناس هنا في النص الكريم ، قيل العرب وعندي أنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إن أريد التخصيص ، وإن كان التعميم فهي على عمومها . وأولئك اليهود قد أسكن الله تعالى قلوبهم حسدا على الناس ، فهم إذا حسدوا النبي والمؤمنين ، فلأنهم ناس أتاهم الله تعالى جزءا من فضله ، فإن فضله عظيم ، ف"من"هنا للبعضية ، أو نقول إنها بيانية ، فقد كان الإيتاء صادرا عن فضله ومجرد تكرمه . وفي هذا إشارة إلى الذين يحسدون من يتكرم عليه الله ، فإنما يعاندون الله تعالى . وسبب هذا الحسد الدائم فيهم أنهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم اختصوا بالنبوة دون غيرهم من الناس ، وقد بين الله سبحانه أن ذلك وهم ، فقال تعالت كلماته:
{ فلقد آتينا إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} أي إذا كنتم تحسدون الناس لما توهمتم أن النبوة فيكم ، وأنكم أهل الوحي دون غيركم ، فقد كذبتم على أنفسكم ، فإن الله تعالى قد أعطى آل إبراهيم ، أي قرابته القريبة من ذريته من إسماعيل وإسحق الكتاب ، أي بعث فيهم النبيين بالكتب من غير تفرقة . والحكمة أي العلم النافع الذي يصحبه عمل نافع و إصلاح بين الناس ، وأعطاهم مع علم النبوة ومع نشر أحكامها ملكا عظيما ، أي سلطانا وبسطة في الأرض فلستم مختصين بالنبوة ، ولستم مختصين بإبراهيم ، فله قرابة غيركم كانوا في العرب ، ولم يكن تلقى الناس لذلك الهدى ولهذا السلطان واحدا:{ فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا} .