{ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين( 30 ) فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين( 31 )} .
/م30
{ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله} هذا النص الكريم يدل على أمرين:أحدهما أن قابيل الذي قتل أخاه ، ولو أنه أكد عزمته على الاعتداء بقوله:"لأقتلنك"كانت نفسه يتردد فيها عاملان:الأول عامل الود والرحم الواصلة ، والثاني عامل الحسد والضغن وثانيهما أن أخاه فيما ساقه من قول كان يريد أن ينمي في نفسه روح المودة والأخوة لتنتصر على الأخرى ولذلك ما تحرك لمقاومته ، بل تحرك لمراجعته ليثوب إلى نفسه .
ومعنى كلمة "طوعت"قال فيها مفسرو السلف معاني تدل على أن هناك مقاومة في داخل شعوره قبل أن يقع في الجريمة وقد فسر مجاهد "طوعت"شجعت ، وفسرها بعض التابعين بسهلت ووسعت ، وبعضهم بزينت وحسنت ، وكلها يشير إلى أنه كانت هناك معركة في داخل نفسه بين الخير والشر ، بين الإقدام على الجريمة ، والإحجام عنها حتى انتصرت وقرأ الحسن بدل "طوعت"، "طاوعت"وهذه الصيغة تدل على المشاركة وهو يدل على معنى المقاومة ، وقد صور السيد رشيد رضا في تفسير المنار معنى المغالبة في النفس تصويرا حسنا فقال:
"إن هذه الكلمة ( طوعت ) تدل على تكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد الداعي إلى القتل ، كتذليل الفرس والبعير الصعب ، فهي تمثل لمن يفهمها ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله ، وهو بين إقدام وإحجام يفكر في كل كلمة من أخيه الحكيم ، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة ، ويدعم ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة فيكر الحسد من نفسه الأمارة بالسوء على كل صارف من صوارف نفسه اللوامة ، فلا يزالان يتنازعان ويتجاذبان حتى يغلب الحسد ويجذبه إلى طاعته".
وإن في النص الكريم إشارة إلى هذه المعاني من حيث التردد ، فقد عبر عن المقتول بقوله:{ فطوعت له نفسه قتل أخيه} والمعنى:أن الأخوة والاطمئنان إلى القرابة كانا يعارضان دواعي القتل ، وعبر عن الجريمة بقوله فقتله ، مما يدل على أن التطويع للحسد بعد المغالبة ترتب عليه أقوى شر في هذا الوجود ، وهو إزهاق النفس التي حرم الله قتلها من غير جريمة إلا أن يكون قبول الله لقربانه جريمة عند الحاسدين .
والنص القرآني مع كل ما سبق فيه إشارة إلى شناعة الجرم في ذاته من حيث الباعث عليه ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول ، ومن حيث ذات الفعل ، فإنه أكبر جريمة إنسانية في هذا الوجود ولكل هذه المعاني أشار القرآن الكريم بأوجه تعبير وأدق الألفاظ وهو سر الإعجاز وفيه بلاغة الإيجاز مع الوضوح ، وإشعاع المعاني بالنور من ثنايا الألفاظ .
{ فأصبح من الخاسرين} أي فصار من الخاسرين بعد تلك الجريمة الكبيرة التي تحيط بها الشناعة من كل أطرافها والتعبير بأصبح هيأ لها المقام في الكلام ، لأن "أصبح"تدل على أنه كان مدركا لما ارتكب عندما أشرق نور الصبح ، كأنه وقت الحيرة أو إرادة الارتكاب في ظلمة من عقله وقلبه ، وفي ديجور من الظلام يشبه ظلام الليل ، حتى كان الصبح المنير الذي أراه الأمور على وجهها ، وأدرك في ذلك الضوء الذي جاء عند الصباح مقدار الإثم فيما فعل .
والخسران الذي لحقه هو خسران القلب المؤمن إذا أربد بالمعاصي وطغى عليه الشر حتى غلبه ، وأركس في مهاوي الشر بسبب ضغن نفسه وامتلاء قلبه بالحسد ، وأحس بأنه خسر أخاه الطيب الطاهر العفيف وأحس بغضب الله تعالى ، وذلك هو الخسران المبين وهكذا صار ممن غلبت عليه شقوته ، وامتلأت نفسه بالحسرة على سوء ما فعل .
وهنا إشارة بيانية ، وهي في التعبير بقوله تعالى:{ فأصبح من الخاسرين} .
فإن مؤداه أنه صار في زمرة الخاسرين الذين كسبوا السيئات وأركست نفوسهم في مهاوي الخسران ، وأصبحوا ولا منجاة لهم ولا بقاء لأنهم نزلوا إلى قاع الهاوية بارتكاب أعظم الجرائم بإصرار وتصميم .