/م27
فماذا كان من تأثير هذه المواعظ ، في نفس ذلك الحاسد الظالم ؟ بين الله ذلك بقوله:{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} .
فسروا طوعت بشجعت وهو مأثور عن ابن عباس ومجاهد ، وبوسعت وسهلت وزينت ، ونحو ذلك من الألفاظ التي رويت عن مفسري السلف وعلماء اللغة ، وكل منها يشير إلى حاصل المعنى في الجملة ، ولم أر أحدا شرح بلاغة هذه الكلمة في هذا الموضع ببعض ما أجد لها من تأثير في نفسي .وإنها لبمكان من البلاغة يحيط القلب ويضغط عليه من كل جانب .{ ق ، والقرآن المجيد} [ ق:1] إنني أكتب الآن ، وقلبي يشغلني عن الكتابة بما أجد لها من الأثر والانفعال .إن هذه الكلمة تدل على تدريج وتكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد الداعي إلى القتل ، كتذليل الفرس والبعير الصعب ، فهي تمثل لمن يفهمها ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله ، وهو بين إقدام وإحجام ، يفكر في كل في كلمة من كلمات أخيه الحكيمة ، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة ، يدعم ويؤيد ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة والهيبة ، فيكر الحسد من نفسه الأمارة ، على كل منها ويجذبه إلى الطاعة ، فإطاعة صوارف الفطرة وصوارف الموعظة ، لداعي الحسد هو التطويع الذي عناه الله تعالى ، فلما تم كل ذلك قتله .
وهذا المعنى يدل عليه اللفظ ، ويؤيده ما يعرف من حال البشر في كل عصر ، بمقتضٍ ، فنحن نرى من أحوال الناس واختبار القضاة للجناة ، أن كل من تحدثه نفسه بقتل أخ له من أبيه القريب أو البعيد ( آدم ) يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن ذلك ، فيتعارض المانع والمقتضى في نفسه زمنا طويلا أو قصيرا حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح المقتضي عنده على الموانع ، فعند ذلك يقتل إن قدر .فالتطويع لا بد فيه من التكرار كتذليل الحيوان الصعب ، وتعليم الصناعة أو العلم .وقد يكون التكرار لأجل إطاعة مانع أو صارف واحد ، وقد يكون لإطاعة عدة صوارف وموانع .وأقرب الألفاظ التي قيلت إلى هذا المعنى كلمة التشجيع المأثورة ، فهي تدل على أنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه ، فما زالت نفسه الأمارة بالسوء تشجعه عليه حتى تجزأ وقتل عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر للعاقبة{ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي من جنس الذين خسروا أنفسهم بإفساد فطرتها ، وخسروا أقرب الناس إليهم وأبرهم بهم في الدنيا ، وهو الأخ الصالح التقي ، وخسروا نعيم الآخرة إذا لم يعودوا أهلا لها لأنها دار المتقين .