( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ 130 ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ 131 وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 132 ) .
بعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى يكشف يوم الحشر استغواء الجن لأوليائهم من الإنس واستكثارهم من ذلك ، وشعور الإنس بأنهم انتفعوا انتفاع متعة لا انتفاع مصلحة بعد ذلك بين تقصيرهم جميعا وأنهم مخاطبون جميعا بهذا التقصير وأنهم خوطبوا جميعا بالرسل فما استجابوا للحق فقال تعالى:
( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا ) .
( المعشر ) الجماعة العامة يا جماعة الإنس والجن ألم يأتيكم رسل منكم ، والخطاب للجن والإنس معا ، وقدم الجن:لأنهم الذين كان منهم الاستغواء ، والإنس استجابوا لاستغوائهم فهم أساس الشر اذ هم الذين وسوسوا بالشر ، وهم الذين دعوا إليه وأغووا به ، ولذا قدموا عند اللوم على إهمال دعوة الرسل ، أولا ، والإنس كان لومهم لأنهم أطاعوا فالمضل منزلته في الضلال أقوى من منزلة من استجاب للتضليل اختيارا وقوله تعالى:( ألم ياتيكم رسل منكم ) فيه استفهام إنكاري لإنكار الوقوع وفيه معنى التوبيخ والتأكيد والمعنى قد أتتكم رسل منكم .
والرسل أهم من الإنس والجن أم من الإنس فقط ؟ والأكثرون على أنهم من الإنس فقط أولا لأن الله تعالى لم يذكر رسلا من الجن قط ، ولو كان منهم رسل لذكرهم وثانيا ، لأن إرسال الرسل كان لما صنعه إبليس مع آدم إذ وسوس له ان يأكل من الشجرة فكان الهبوط وكانت الهداية بالرسل لقوله تعالى:( فاما يأتيكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( البقرة ) وثالثا:أنه جاء النص بان الرسل ذوو الكتب المنزلة وجاء على لسان الجن أنهم خوطبوا بما جاءوا به فقد قا ل تعالى عنهم:( إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي على الحق والى طريق المستقيم 30 يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ويغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم 31 ومن لا يجيب داعيالله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين 32 ) ( الأحقاف ) ورابعا:أن الله تعالى ذكر الأنبياء وكلهم من الإنس فذكر أعدادا كبيرة ، ثم قال تعالى:( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك 78 ) ( غافر ) ولم يذكر ولا بالإشارة أن في الجن رسلا أرسلهم .
لهذا رجح الأكثرون أو اختاروا أن الرسل ليسوا من الجن ولكن قال بعض العلماء إنه كان من الجن رسل أخذها من هذه الآية وهي قوله تعالى:( ألم يأتيكم رسل منكم ) فالتعبير يشير على أن من الجن رسلا لأن الرسل من الفريقين ولأن قوله تعالى ( منكم ) قريب من قوله تعالى:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم 128 ) ( التوبة ) .
وقد أجيب عن ذلك بأن هذا لا يقتضي أن يكون من كل فريق رسول ، بل إن الظاهر أن يكون الرسول من جماعة الجن والإنس معا ، وبذلك يسوغ أن يكون من أحدهما دون الآخرين ما دام ينطبق عليه أنه من جماعة الإنس والجن فهما جماعة المكلفين وضربوا لذلك مثلا قوله تعالى:( مرج البحرين يلتقيان 19 بينهما برزخ لا يبغيان 20 فبأي آلاء ربكما تكذبان 21 يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان 22 ) ( الرحمان ) فذكر سبحانه أنه يخرج من البحرين اللؤلؤ والمرجان مع أنه لا يخرج من الماء العذب اللؤلؤ والمرجان بل يخرجان فقط من الماء والملح ولكن عبر عنهما بقوله تعالى ( مهما ) لأنه ذكر البحرين وهو يخرج منهما وإن كان لا يخرج إلا من احدهما .
وإن أولئك الرسل يقصون آيات الله تعالى الدالة على الوحدانية وأنه قادر على كل شيء ولذا قال تعالى:( يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) ( يقصون ) من القصص أو قص الأثر والآية الكريمة تحتملهما والمعنى على الأول يذكرون لكم آياتي التي جاءت على أيدي الأنبياء السابقين فكل رسول يتقدم بالآيات التي أجراها الله تعالى على يديه ويذكر آيات من سبقوه من الرسل السابقين له فمحمد صلى الله عليه وسلم تقدم بالمعجزة الكبرى وهي القرآن وكان معه آيات آخر من خوارق العادات وإن لم يتحد بها ، وذكر الآيات التي جرت على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى على آخر ما جاء في القرآن الكريم من آياته وذكر في القرآن معجزات موسى عليه السلام من العصا ، وفلق البحر وانفجار الماء من الأحجار وغير ذلك من المعجزات الباهرات الدالة على رسالة الله تعالى وعلى قدرته القاهرة ، وآياته الباهرة .
فالأنبياء قصوا آيات الأنبياء قصوها في مجموعهم لا في آحادهم وبذلك كانت الآيات بين يدي الجن والإنس معلومة ظاهرة بينة تدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وتنذرهم بلقاء ربهم في ذلك اليوم فلم يتعظوا ولم يعتبروا وكان ذلك اللقاء الذي وراء الحساب والعقاب .
هذااذاخرجنا كلمة ( يقصون عليكم آياتي ) على معنى القصص وإذا خرجناها على معنى قص الأثر ، أي تتبع الأثر واستدل يكون المعنى في نظرنا أن الرسل عليهم السلام يتتبعون آيات الله في الكون من سماء ذات أبراج وارض ذات جبال وماء ينزل من السماء إلى الأرض فينبت كل شيء ويكون منه كل شيء حي ، ورياح تجري بإذن الله ، وسحاب مسخر بين السماء والأرض وغير ذلك من آيات الله قص رسل الله تلك الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى أولا ، وعلى قدرته القاهرة التي تقدر على الإعادة كما قدرت على الإنشاء وكما قال تعالى:( كما بدأكم تعودون29 ) ( الأعراف ) . وإنه من بعد ذلك كان الإنذار باللقاء والإنذار باللقاء ليس بذات اللقاء ، ولكن بما وراءه من حساب وعقاب ، ودخول جهنم والعياذ بالله من نارها وشرها .
هذا ما نراه في معنى القص ، ونرى أن الآية تحتمل المعنيين ولا مانع من الجمع بينهما بأن يكون المعنى ذكر قصص آيات النبيين التي جرت على أيديهم وتتبع الأنبياء لآيات الله في الكون الدالة على وحدانيته وكمال قدرته هذا ما يقوله الله تعالى للجن والإنس في ذلك المشهد الرهيب فبماذا يجيبون ؟ .
( قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) .
ومعنى ( شهدنا ) أقررنا فإن الشهادة تكون بمعنى الإقرار وبمعنى الإثبات وبمعنى الحكم وهي هنا بمعنى الإقرار المبني على المعاينة والرؤية فهو إقرار مؤكد بالمعاينة والمشاهدة لا بمجرد الإخبار عن أمر مغيب ، وأكدوا الإقرار بأنه على أنفسهم وهذا الإقرار موضوعه أن الرسل قد أتوا إليهم ، وأشارت الآية على أنهم شهدوا على أنفسهم بمجيء الأنبياء ولم يؤمنوا بهم ، ولم يصدقوهم ، أشار سبحانه إلى السبب في عدم صدقهم فقال تعالت كلماته:( وغرتهم الحياة الدنيا ) أي غرهم ما فيها من متع تسلط بها الجن على الإنس فضلوا وأضلوا ولذا قال سبحانه بعد ذلك عنهم:
( وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ) .
كانت الشهادة الأولى على أنفسهم بأنهم جاءتهم الرسل ثم ذكر ما يشير بأنهم لم يؤمنوا بالرسل ، اذ غرتهم الحياة الدنيا فدلاهم بغرورها ( واستجابوا لغواية الأبالسة ) ولذا كان تكرار الشهادة والإقرار وإذا كانت الشهادة الأولى إقرارا بان الرسل دعتهم الى الحق فالشهادة الثانية إقرار بأنهم دعوا إلى الحق ، وكفروا به ، ولذلك قال تعالى:( وشهد واعلى أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) وهي إقرار على أنفسهم بالكفر وهي شهادة تنطق بها ألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم ، كما قال تعالى في آية أخرى:( يوم تشهد عليهم ألسنتهم 24 ) ( النور ) .
ولقد اعترض بأنه ذكر أنهم يكونون في حال فتنة ، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا:والله ربنا ما كنا مشركين وقد أجيب عن ذلك بجوابين:
أولهما:أنهم كانوا في اضطراب من هول الموقف ، فمرة ينكرون وذلك بسبب ما فتنوا به ، وما أخذت به نفوسهم المضطربة الحائرة .
وثانيهما:أنهم في حال الإنكار كانوا في اضطراب ولم يكن كشف لهم المكتوب عليهم ، والمسجل عليهم في كتابهم فقد كتب عملهم في سجل كمن يكون في حساب وتحقيق في القضاء فينكر ابتداء فإذا عرض عليه فعله المسجل اضطر على الإقرار لأنه يحس بأنه لا مناص من أن يقر والله أعلم بما يكون في يوم القيامة .