( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 145 وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ 146 ) .
في هذه الآية حصر ما حرمه الله تعالى من الأنعام وبيان أن الله تعالى لم يحرم ما حرموه على أنفسهم من الأنعام وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى هو البيان فيما أوحي إليه به ، لأنهم كانوا يجابهون النبي صلىالله عليه وسلم بتحريم ما يحرمون غير متحرجين في ادعاء التحريم على الله تعالى ويفترون على الله الكذب وكانوا ظالمين ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا .
وإن المتتبع لآي الله تعالى يجد أن كل امر يجري فيه الجدل أو يثيرون هم فيه الجدل يامر الله تعالى نبيه بأن يتولى البيان بلسانه مع بيان الله تعالى .
( لا أجد في ما أوحي إلي ) أي فيما أوحاه الله تعالى وإنما بنى للمفعول لبيان نفى وجود الوحي نفيا مطلقا بغير ما هو مذكور فالبناء للمفعول هنا .
لعموم نفي عدم الوجود وفيه إشارة إلى أن ما حرموه غير معقول إن سمى به وحي مطلقا .
وقال ( على طاعم يطعمه ) أي على آكل يأكله وعبر سبحانه بقوله تعالى ( على طاعم يطعمه )بدل ( آكل يأكله ) لأن الطعم تذوق واستطابة والأكل قد يكون أكل غير مرغوب فيه ، أو ما ليس له ذوق يستطاب ففي هذا إشارة إلى أنهم يحرمون طيب اللحوم والمطعومات .
( إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) .
الميتة الحيوان الذي يموت وينحبس دمه فيه ، ويدخل في معناه المنخنقة والموقوذة التي وقذت بالحجارة حتى ماتت والمتردية التي تردت في حفرة أو بئر والنطيحة التي نطحت من أخرى حتى ماتت فإن هذه تدخل في عموم كلمة ميتة ان توسعنا في معناها بان قلنا:إن لميتة ما لم تذك بالذبح وإنهار الدم ومهما يكن فانها في المعنى قريبة من الميتة .
والدم المسفوح هو الدم السائل ، وقد تبين أنه سريع الفساد وتسارع الميكروبات إليه ، والدم المسفوح خرج به الدم الذي يكون بعد الذبح في جوار اللحم أو مخالطا له ، والكبد والطحال إن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه سماهما دما ، كما روى أنه قال:أحلت لنا ميتتان ودمان:الكبد والطحال ، والسمك والجراد ){[1064]} .
والخنزير هو الدابة المعروفة وهو محرم في الديانات الثلاث:اليهودية والنصرانية والإسلام واستباحها اليهود والنصارى بعد تحريف دينهم عن موضعه وبعد أن نسوا حظا مما ذكروا به .
وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب التحريم فقال:( فإنه رجس ) أي قذر فهو قذر في ذاته وهو قذر في غذائه فهو يتغذى من الأقذار فيتغذى من العذرة ولحمه رجس اذ إنه مقشش{[1065]} فيه ميكروبات . اخصها الدودة ، ولا حظ كثيرون انه حيث يكثر آكلوه يكثر مرض السرطان ، ولو تنبه العلماء اليه وبحثوا لحمه لوجدوا بعده الحيرة الطويلة أن هذا الداء العضال تكمن جرثومته فيه ، لأن الله تعالى قال:( فانه رجس ) وهو اصدق القائلين واذا كان الخنزير فيه رجس حسي ، ومن أجله حرم أكله فان الله تعالى قد حرم ما فيه رجس معنوي ، وقرنه به ، وهو ما أهل لغير الله به ، ولذا قدم كلمه ( فسقا ) مقارنة لكلمة ( رجس ) لانهما يلتقيان في المعنى لأن هذا الخنزير رجس حسي ، وهذا الفسق رجس معنوي فهما من باب واحد .
وقوله تعالى:( أهل لغير الله به ) أي انهم ذبحوه لا باسم الله بل باسم أوثانهم وكانوا حريصين على ذلك كل الحرص لأنهم قدموا غير الله ذبحهم فقصدهم التقرب لآلهتهم فيه .
وهنا يثار بحث ، فإن الآية تدل على أن ما أهل لغير الله يكون حراما ، وبمفهوم المخالفة ما لم يهل لغير الله به يكون حلالا ، وعلى ذلك يكون ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى ، ولم يهل به لغير الله يكون حلالا وقد قررنا أنه إن لم يذكر اسم الله تعالى ، نسيانا فإنه يؤكل المذبوح وإن ترك عمدا ففيه نظر ما دام لم يذكر غير الله تعالى .
وهناك بحث آخر وهو أن ثمة محرمات قدو ردت بها آثار كسباع البهائم فإنها وردت الآثار بتحريمها وسباع الطيور ، وبعض خشاش الأرض ، كالحية والعقرب وغيرها ، وكالحمر الأهلية التي حرمت في غزوة خيبر .
والآية تفيد القصر أي قصر المحرمات على المذكور كما تفيد إباحة غيره ، لأن القصر كما هو مقرر في علم البيان نفي وإثبات ، فقد أثبت التحريم في هذه الأشياء الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، وثبتت الإباحة بالنص الذي أفاد القصر فيما عداها وقد ثبت أن بعض ما عداها كان حراما .وهذا يتناقض مع القصر .
وقد أجيب عن ذلك بعدة إجابات:
أولها:أن هذا القصر خاص بالأنعام ، وما كان يشبهها من البهائم كالخنزير فإن النص سيق للرد على المشركين الذين حرموا بعض الأنعام وافتروا علىا لله تعالى بالكذب ، فكان الرد بهذا القصر الذي يفيد تحريم ما نص عليه ، وأن غيره مباح وغيره هو ما يتعلق بالأنعام وقد يرد على هذا أن التحريم كان فيه الخنزير وهو لا يشبهها فمجيئه لا يدل على أن الكلام في الأنعام فقط ، ونقول عن مجيئه لا يمنع أن الإباحة فيما عدا المنصوص عليه كان في الأنعام فقط ، فلا يدخل في مدلول نفى التحريم غير الأنعام ، بل يبقى سكوتا عنه حتى يجيء نص فيحرمه والا فهو في مرتبة العفو أو الإباحة هذا تخريج للقصر ، ونعتقد انه لا يمنع تحريم سباع البهائم وسباع الطير ، وخشاش الأرض وهذا عندي أوضح التخريجات وأقربها .
والتخريج الثاني:تخريج الزمخشري وهو أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن ، وأنه لا قصر حتى يكون الكلام مشتملا على نفى وإثبات نفى التحريم وإثبات الإباحة انما هناك نفى لتحريم ما حرموا ، ويكون مؤدى التخريج هكذا قل لا أجد محرما علىفي ما تحرمون على طاعم يطعمه فهذا النفى رد عليهم لكن أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير أو أهل لغير الله فهو حرام وعلى ذلك لا يكون قصر فيه نفي وإثبات للإباحة ولكن فيه تحريم فقط تحريم بالرد ، وتحريم بالاستدراك . هذا كلام قاله الزمخشري .
ونقول لإمام البلاغة:إنه تخريج لا يستقيم مع النسق البياني الذي يليق بكتاب الله العظيم .
والتخريج الثالث:أن الآية لم تدل على الإباحة المطلقة انما أخذت الإباحة بالمفهوم ولا يؤخذ بالمفهوم حيث يكون نص وهناك تمنع .
( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
هذا التحريم مؤكد في حال الاختيار لا في حال الاضطرار فمن كان في حال ضرورة لا يجد ما يطعمه وقد تعرض للهلاك جوعا ، وهو غير باغ ولا معتد فان الله تعالى يغفر له أكله ، وقد قلنا إن حد الضرورة قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم إجابة لمن سأله إذ قال له ، ( انه يجيء الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله ){[1066]} .
( والباغي ) له تخرجان:
أولهما:أن الباغي ، هو من خرج باغيا على الحاكم العادل ظالما له ، أو من خرج لمعصية فانه لا ينتفع بهذه الرخصة وذلك يكون سيرا على قاعدة ان من ارتكب معصية لا تكون المعصية سببا لنعمة الرخصة بسبب السكركمن يرتكب جريمة وهو سكران بمحرم فانه لايعفى من الجريمة بسبب السكر وذلك مبدأ مقرر عند بعض الفقهاء وخصوصا فقهاء العراق .
والثاني أن الباغي الطالب لهذا المحرم المشتهي له ، كان يكون مضطرا فلا يجد الا خنزير يشتهيه ويأكله باغيا له طالبا .
و ( العادي ) هو له هذان التفسيران أيضا ، فخرجه بعض الناس على أنه الظالم بمعصية أوقعته في هذه الضرورة فانه عاص لا يستمتع بنعمة الرخصة .
والثاني:أن العادي أي المتجاوز لحد الضرورة .
وأميل إلى أن الباغي المشتهي الطالب للميتة أو الخنزير وأن العادي هو المتجاوز لحد الضرورة فإن رحمة الله تعالى في الدنيا تتسع للأشرار كما تتسع للأخيار والحساب عند الله وعسى أن يغفر الله لهم وننبه هنا على أمرين:
أحدهما:معنوي:وهو أن هذه المحرمات ما حرمت الا لأنها خبائث والله حرم الخبائث وإن فيها إفسادا للجسم الإنساني وإضرارا به ، وان الضرورة وشدة الجوع قد تذهب بأوضار الأخباث التي في هذه المحرمات وان ضررها يقل بالنسبة للجائع جوعا شديدا يؤدى إلى الهلاك وإن كان ثمة ضرر من بعد فإنه اخف مما يترتب على الامتناع ولذلك كانت الرخصة مقيدة بألا يتجاوز حد الضرورة لأنه إن تجاوزه غلب الضرر واشتد أثر الجراثيم المفسدة للجسم التي تحتوي عليها هذه المحرمات .
وثانيهما:وهو بياني ومعنوي أيضا وهو قوله تعالى:( فإن ربك غفور رحيم ) اثر لجواب الشرط المحذوف أو سبب له ، فإن المقدر هكذا ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ، كما ذكر في آيات أخر ، أما هنا فلم يذكر ولكن ذكر سببه وهو فإن ربك غفور رحيم فالسبب أن الشارع الحكيم هو ربكم الذي خلقكم وربكم وقام على أمر حياتكم وأنه غفور يغفر الإثم ويستره وانه رحيم لا يرهقكم وان هذا يدل على رفع الاثم سببا بسببه .