التّفسير
بعض الحيوانات المحرّمة:
ثمّ إِنّه تعالىبهدف تمييز المحرمات الإِلهية عن البِدِع التي أحدثها المشركون وأدخلوها في الدين الحقأمر نبيّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الآية بأن يقول لهم بكل صراحة ،ومن دون إِجمال أو إِبهام: ( لا أجد في ما أُوحي إِليّ ) من الشريعة أيَ شيء من الأطعمة يكون ( محرماً على طاعِم يَطعمُه ) من ذكر أو أُنثى ،وصغير أو كبير .
اللّهم ( إِلاَّ ) عدّة أشياء ،الأوّل: ( أن يكون مَيتةً ) .
( أو ) يكون ( دماً مسفوحاً ) وهو ما خرج من الذبيحة عند التزكية بالقدر المتعارف ( لا الدّماء التي تبقى في جسم الذبيحة في عروقها الشعرية الدقيقة ،بعد خروج قدر كبير منها بعد الذبح ) .
( أو لحم خنزير ) .
لأنّ جميعَ هذه الأشياء رِجس ومنشأٌ لمختلف الأضرار ( فإِنَّه رِجس ) .
إِنّ الضَمير في «فإِنّه » وإِن كان ضمير الإِفراد ،إِلاّ أنَّه يرجعحسبَ ما يذهب إِليه أكثُر المفسّرينإِلى الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية ( الميتة ،الدم ،لحم الخنزير ) فيكون معنى الجملة الأخيرة هي: فإِنَّ كلَ ما ذُكِر رجس{[1310]} .وهذا هو المناسِب لظاهر الآية وهو عودة الضمير إِلى جميع تلك الأقسام ،إِذ لا شك في أن الميتة والدم هما أيضاً رجس كلحم الخنزير .
ثمّ أشار تعالى إِلى نوع رابع فقال: ( أو فسقاً أُهِلَّ به لغيرِ الله ){[1311]} أي التي لم يذكر اسم الله عليها عند ذبحها .
والجدير بالتأمل أنّه ذكرت لفظة «فسقاً » بدلا عن كلمة «الحيوان » .
و«الفسق » كما أسلفنا يعني الخروج عن طاعة الله وعن رسم العبودية ،ولهذا يُطلق على كل معصية عنوان الفسق .
وأمّا ذكر هذه اللفظة في هذا المورد في مقابل الرجس الذي أُطلق على الموارد الثلاثة المذكورة سابقاً ،فيمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّ اللحوم المحرمة على نوعين:
اللحوم المحرّمة لخباثتها بحيث تنفر منها الطباع ،وتوجب أضراراً جسدية ،ويطلق عليها وصف الرجس ( أي النجس ) .
اللحوم التي لا تعدّ من الخبائث ،ولا تستتبع أضراراً جسميّة وصحيّة ،ولكنّهامن الناحية الأخلاقية والمعنويةتدلُّ على الابتعاد عن الله وعن جادة التوحيد ،ولهذا حُرّمت أيضاً .
وعلى هذا الأساس لا يجب أن نتوقع أن تنطوي اللحوم المحرمة دائماً على أضرار صحيّة ،بل ربّما حُرّمت لأجل أضرارها المعنوية والأخلاقية ،ومن هنا يتضح أنّ الشروط الإِسلامية المقرَّرة في الذبح على نوعين أيضاً:
بعضهامثل قطع الأوداج الأربعة ،وخروج القدر المتعارف من دم الذبيحةلها جانب صحِّي .
وبعضها الآخرمثل توجيه مقاديم الذبيحة نحو القبلة عند الذبح ،وذكر اسم الله عنده ،وكون الذابح مسلماًلها جانب معنويّ .
ثمّ إِنّه سبحانه استثنىفي آخر الآيةمن اضطر إِلى تناول شيء ممّا ذكر من اللحوم المحرَّمة ،كما لو لم يجد أيّ طعام آخر وتوقفت حياته على تناول شيء من تلك اللحوم ،إِذ قال: ( فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد فإِنَّ ربّك غفُورٌ رحيمٌ ){[1312]} يعني أنّ من اضطرّ إِلى أكل شيء ممّا ذكرِ من المنهيّات فلا إثم عليه ،بشرط أن يكون للحفاظ على حياته ،لا للذة ،ولا مستحلاًّ لما حرّمه الله ،أو متجاوزاً حدّ الضرورة ،ففي هذه الصورة ( فان ربّك غفور رحيم ) .
وإِنّما اشترِطَ هذان الشرطان لكي لا يتذرع المضطرون بهذه الإِباحة فيتعدّوا حدودَ ما قرَّره الله بحجة الاضطرار ،ويتخذوا من ذلك ذريعة لتجاهل حِمى القوانين الإلهية .
ولكنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن آل البيت( عليهم السلام ) ،مثل الحديث المنقول عن الإِمام الصادق( عليه السلام ): «الباغي:الظالم ،والعادي: الغاصب »{[1313]} .
كما نقرأ في حديث آخر منقول عن الإِمام( عليه السلام ) أنّه قال: «الباغي: الخارج على الإِمام ،والعادي: اللص »{[1314]} .
هذه الرّوايات ونظائرها تشير إِلى أنّ الاضطرار إِلى تناول اللحوم المحرمة يتفق عادة في الأسفار ،فإِذا أقدم أحد على السَفَر في سبيل الظلم أو الغصب أو السرقة ثمّ فَقَد الطعامَ الحلال في خلال السفر لم يجز له تناول اللحوم المحرّمة ،وإِن كانت وظيفتهللحفاظ على حياته من التلفهو التناول من تلك اللحوم ،ولكنّه يعاقب على إِثمه هذا ،لأنّه أوجد بنفسه المقدمات لمثل هذا السَفَر الحرام ،وعلى كلِ حال فإِنَّ هذه الرّوايات تنسجم مع المفهومِ الكليّ للآية انسجاماً كاملا .
جوابٌ على سؤال:
وهنا يطرح سؤال هو: كيف حُصِرَت جميع المحرمات الإِلهيةفي مجال الأطعمةفي أربعة أشياء ،مع أنّنا نعلم بأنّ الأطعمة المحرمة لا تنحصر في هذه الأشياء ،مثل لحوم الحيوانات المفترسة ،ولحوم الحيوانات البحرية ( إِلاّ ما كان له فلس من الأسماك ) وما شابه ،فهذه كلّها حرام ،في حين لم يجيء في الآية أيُ ذكر عن تلك اللحوم ،بل حصرت المحرمات في هذه الأشياء الأربعة ؟!
قال البعض في مقام الإِجابة على هذا السؤال ،بأنَّ هذه الآيات نزلت في مكّة وحكم الأطعمة المحرمة الأُخرى لم ينزل بعدُ .
غير أنّ هذه الإِجابة تبدو غير صحيحة ،والشاهد على ذلك أنّ نفس هذا التعبير أو نظيره قد ورد في السُوَر المدنية مثل الآية ( 173 ) من سورة البقرة .
والظاهر أنّ هذه الآية ناظرةفقطإِلى نفي الأحكام الخرافية التي كانت شائعة وسائدة في أوساط المشركين ،فالحصر «حصر إِضافي » لا حقيقيّ .
وبعبارة أُخرى: كأنَّ الآية تقول: المحرمات الإِلهية هذه ،وليس ما نسجته أوهامُكم .
ولكي تتضح هذه الحقيقة لا بأس بأنّ نضرب لذلك مثلا .
يسألنا أحد: هل جاء الحسن والحسين كلاهما ،فنجيب: كلا بل جاء الحسن فقط ،لا شك أننا هنا نريد نفي مجيء الشخص الثاني ( أي الحسين ) ولكن لا مانع من أن يكون آخرونممن لم يكونوا محور حوارنا أصلاقد جاؤوا أيضاً ،وهذا هو ما يسمى بالحصر الإضافي ( أو النسبيّ ) .
نعم ،لابدّ من الانتباه إِلى نقطة مهمّة ،وهي أنّ ظاهرَ الحصر عادةًالحصرُ الحقيقي إِلاّ في الموارد التي يوجد فيها قرائن صارفة عن مدلول الظاهر مثل ما نحن فيه الآن .