ولقد قرر الله تعالى الحقيقة الثابتة فقال عز من قائل:( هوالَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ )
بعد أن ذكر جلت قدرته خلقه لهذا الكون وما فيه ، وسلطانه على السموات والأرض ومن فيهن بين سبحانه خلق الإنسان الذي يؤمن ويكفر ، ويأثم ويفسق ويهتدي لأمر ربه والذي حارت البرية فيه كما قال أبو العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
ذكر ان الله تعالى خلقه أي انشأه من طين فلا يصح أن يستكبر ويستغلظ على الهداية وليذكراصله فأصله من طين ، ولا يزال رب البرية يربه وينميه من الطين ، فغذاؤه نبات أو حيوان يرجع إلى الطين وفي ذكر هذا الأصل إشارة إلى أمرين جليلين:أولهما:عظمة الخالق وإبداعه الذي يجعل من صلصال من حمأ مسنون ذلك الإنسان الحي المتفكر المتدبر الذي يختار الشر فيغري ويختار الخير فيهتدي والإشارة إلى تذكير الإنسان إلى اصل خلقه لكيلا يستكبر ولا يغتر ولا يستعلى واذا كان أصله من الطين فليس عجبا أن يعود كما بدأ:( قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين لد الدين كما بدأكم تعودون 29 ) ( الأعراف ) ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم . . .55 ) ( طه ) .
وإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان من الطين أي خلق أصله من طين ، ثم توالد وتناسل من بعد ذلك وعمر الأرض ما شاء أن يعمرها حتى كان منهم من نسي أصله الطيني ، وقد قدر سبحانه لكل انسان أجلا ، ولبنى الإنسان جميعا أجلا ، أما الأول فقد أشاراليه سبحانه وتعالى:( ثم قضى أجلا ) أي عمرا تكون له نهاية في هذه الدنيا وعقبي هنالك في الآخرة وكان العطف ب ( ثم ) للإشارة إلى الأطوار التي يمر يها الإنسان ، والأطوار التي يمر بها الجنين ، وللتفاوت بين الحقيقة التي نراها ونحسها والغيب الذي لا نعرفه مما قدره الله تعالى إذ يقول سبحانه ):
( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ . . .ٌ34 ) ( لقمان ) .
هذا هو أجل العمر وقال سبحانه وتعالى بعد ذلك:( وأجل مسمى عنده ) وما هذا الأجل المسمى عنده ولا يعلم به أحد الآن يصح أن يكون الأمد الذي يكون بين الوفاة وبعث من في القبور ويصح أن يكون ما قدر للإنسان في هذه الأرض من وجود والأمران متلاقيان فالزمن الذي يكون بين وفاة كل واحد والبعث من القبور والحساب والثواب أو العقاب ثم الذي تنتهي به الدنيا وهو مغيب ، لأن الساعة علمها عند الله قال تعالى:( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل نما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون187 ) ( الأعراف ) .
ووصف هذا الأجل الثاني بأنه مسمى عنده يفيد اختصاص علمه سبحانه وتعالى بذلك ، كما أشارت الآيات التي تلونها ، وقدم ( أجل مسمى ) على قوله تعالى ( عنده ) لأن الأجل المسمى هو المبتدأ وما بعده خبر والمبتدأ مقدم حقيقة ولأن الأجل هو المتحدث عنه باعتبار أن موضعه لا يعلمه إلا الله تعالى ، وسوغ الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة والموصوف المنكر يصح أن يكون مبتدأ لأنه معرف بنوع من التعريف وتأخير ، ( عنده ) ليس فقط لأن الأجل هو المبتدأ بل لأن ( عنده ) متعلقة بكون التسمية فالعندية ليست لذات الخبر ، إنما هي للوقت المسمى الذي اختص الله تعالى به ، فكان الأنسب أن يكون المسمى مقترنا بالعندية التي هي متعلقة .
وإذا كانت الآجال ترى مقدرة فكل حي ينتهي بالموت لا محالة فكان الأجل لا يعلمه إلا الله تعالى لا ريب فيه أيضا ، ولكن بعض الناس في ريب وشك ، لانهم مربوطون بالمحسوس ولذا قال سبحانه:( ثم أنتم تمترون ) أي أنه معه ما ترون وتعلمون من أن الإنسان يموت كما ترون وأنه من طين مع ذلك تمترون أي تشكون وتجادلون في شككم والأدلة قائمة وكان العطف ب ( ثم ) لتباعد ما بين الحقائق الثابتة وأسبابها والامتراء هو التردد الذي تنتهي إلى محاجة ومجادلة وقد ينتهي إلى شك ثم إلى إنكار وكان الخطاب لكل المخاطبين بالقرآن مؤكدا ب ( أنتم ) للإشارة إلى أن النفس البشرية حسية وهي تأخذ أحكامها على الغائب الخفي من المحسوس فكان الخطاب للجميع ليخلعوا من نفوسهم عوامل التردد ويتجهوا إلى تصديق العليم الحكيم القادر على كل شيء .