والآية التّالية تلفت نظره إِلى العالم الصغير ( الإِنسان ) فتشير إِلى أعجب أمر ،وهو خلقه من الطين فتقول ( هو الذي خلقكم من طين ) .
صحيح أنّنا ولدنا من أبوينا ،لا من الطين ،ولكن بما أنّ خلق الإِنسان الأوّل كان من الطين ،فيصح أن نخاطب نحن أيضاً على أننا مخلوقين من الطين .
وتستمر السورة فتشير إِلى مراحل تكامل عمر الإِنسان فتقول: إِنّ الله بعد ذلك عين مدّة يقضها الإِنسان على هذه الأرض للنمو والتكامل: ( ثمّ قضى أجلا ) .
«الأجل » في الأصل بمعنى «المدّة المعينة » و«قضاء الأجل » يعني تعيين تلك المدّة أو إِنهاءها ،ولكن كثيراً ما يطلق على الفرصة الأخيرة اسم «الأجل » ،فتقول ،مثلا: جاء أجل الدَّين ،أي أنّ آخر موعد لتسديد الدّين قد حل .ومن هنا أيضاً يكون التعبير عن آخر لحظة من لحظات عمر الإِنسان بالأجل لأنّها موعد حلول الموت .
ثمّ لاستكمال البحث تقول: ( وأجل مسمى عنده ) .
بعد ذلك تخاطب الآية المشركين وتقول لهم: ( ثمّ أنتم تمترون ) أي تشكون في قدرة الخالق الذي خلق الإِنسان من هذه المادة التافهة ( الطين ) واجتاز به هذه المراحل المدهشة ،وتعبدون من دونه موجودات لا قيمة لها كالأصنام .
ما معنى الأجل المسمى ؟
لا شك أنّ «الأجل المسمى » و«أجلا » في الآية مختلفتان في المعنى ،أمّا اعتبار الاثنين بمعنى واحد فلا ينسجم مع تكرار كلمة «أجل » خاصّة مع ذكر القيد: «مسمى » في الثّاني .
لذلك بحث المفسّرون كثيراً في الاختلاف بين التعبيرين ،والقرائن الموجودة في القرآن والرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيت( عليهم السلام ) تفيد أنّ «أجل » وحدها تعني غير الحتمي من العمر والوقت والمدّة ،و«الأجل المسمى » بمعنى الحتمي منها ،وبعبارة أُخرى «الأجل المسمى » هو «الموت الطبيعي » و«الأجل » هو الموت غير الطبيعي .
ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الكثير من الموجودات لها من حيث البناء الطبيعي والذاتي الاستعداد والقابلية للبقاء مدّة طويلة ،ولكن قد تحصل خلال ذلك موانع تحول بينها وبين الوصول إلى الحد الطبيعي الأعلى ،افترض سراجاً نفطياً يستطيع أنّ يبقى مشتعلا مدّة عشرين ساعة مع الأخذ بنظر الاعتبار سعته النفطية ،غير أن هبوب ريح قوية ،أو هطول المطر عليه أو عدم العناية به ،يكون سبباً في قصر مدّة الإضاءة ،فإِذا لم يصادف السراج أي مانع ،وظل مشتعلا حتى آخر قطرة من نفطه ثمّ انطفأ نقول: إِنّه وصل إِلى أجله المحتوم ،وإذا أطفأته الموانع قبل ذلك ،فيكون عمره «أجل » غير محتوم .
والحال كذلك بالنسبة للإِنسان ،فإِذا توفرت جميع ظروف بقاءه وزالت جميع الموانع من طريق استمرار حياته ،فإن بنيته تضمن بقاءه مدّة طويلة إِلى حد معيّن ،ولكنّه إِذا تعرض لسوء التغذية ،أو ابتلى بنوع من الإِدمان ،أو إِذا انتحر ،أو أعدم لجريمة ومات قبل تلك المدّة ،فإنّ موته في الحالة الأولى يكون أجلا محتوماً ،وفي الحالة الثّانية أجلا غير محتوم .
وبعبارة أُخرى: الأجل الحتمي يكون عندما ننظر إِلى «مجموع العلل التامّة » ،والأجل غير الحتمي يكون عندما ننظر إِلى «المقتضيات » فقط .
استناداً إِلى هذين النوعين من الأجل يتّضح لنا كثير من الأُمور ،من ذلك مثلا ما نقرؤه في الرّوايات والأحاديث من أن صلة الرحم تطيل العمر ،وقطعها يقصر العمر ،وواضح أنّ العمر هنا هو الأجل غير الحتمي .
أمّا قوله تعالى: ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ){[1135]} .
فهو الأجل المحتوم ،أي أنّ الإِنسان قد وصل إِلى نهاية عمره ،وهو لا يشمل الموت غير المحتوم السابق لأوانه .
ولكن علينا أن نعلمعلى كل حالأنّ الأجلين يعنيهما الله ،الأوّل بصورة مطلقة ،والثّاني بصورة معلقة أو مشروطة ،وهذا يشبه بالضبط قولنا: إِنّ هذا السراج ينطفيء بعد عشرين ساعة بدون قيد ولا شرط ،ونقول إِنّه ينطفئ بعد ساعتين إِذا هبت عليه ريح ،كذلك الأمر بالنسبة للإِنسان والأقوام والملل ،فنقول: إِنّ الله شاء أن يموت الشخص الفلاني أو أن تنقرض الأُمّة الفلانية بعد كذا من السنين ،ونقول إِنّ هذه الأُمّة إِذا سلكت طريق الظلم والنفاق والتفرقة والكسل والتهاون فإنّها ستهلك في ثلث تلك المدّة ،كلا الأجلين من الله ،الأوّل مطلق والآخر مقيد بشروط .
جاء عن الإِمام الصادق( عليه السلام ) تعقيباً على هذه الآية قوله: «هما أجلان: أجل محتوم وأجل موقوف » كما جاء عنه في أحاديث أُخرى أنّ الأجل الموقوف قابل للتقديم والتأخير ،والأجل الحتمي لا يقبل التغيير{[1136]} .