( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ) .
الفاء لتفصيل ما كان منهم وبيان ما ترتب من عواقب قريبة وأخرى بعيدة فإنهم إذا لم يتضرعوا بسبب قسوة قلوبهم وأنهم زينت لهم أعمالهم كان لذلك عواقب . وكانوا بتلك القسوة وتزيين السوء ناسين لما ذكروا به . فقد ذكروا بالبأساء والضراء وبسبب قسوة قلوبهم تركوا ما ذكروا به والنسيان هنا ليس هو مجرد الترك إنما هو نسيان آثار الضراء والبأساء فإن الضراء والبأساء لكي تنتجا آثارهما الحقيقية من الضراعة يجب أن تتركا آثارا في القلوب تكون مذكرة بانتظام دائم لهما ولكنا لقسوة والغرور والعجب والاستكبار محت تلك الآثار المذكرة فكان النسيان وعاد الاغترار والاستكبار .
والله تعالى في هذه الحال التي أصابهم فيها النسيان يقول:( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) أي أن الرزق وأسباب القوة والاغترار والاستكبار تأتيهم وتسهل لهم فكانوا في سعة في كل شيء وقوله هذا:( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) فيه استعارة تمثيلية لمعنى تسهيل كل شيء حتى يكونوا في بحبوحة وسعادة مادية وعدم خوف ، واطمئنان إلى المستقبل أو نقول عن النص القرآني كناية عن هذا المعنى لأن من يفتح له باب كل شيء يكون لا محالة في سعة مادية واطمئنان مادي .
وهذا المعنى فيه اختبار للنفس غير المؤمنة بالنعمة بعد أن اختبرها بالنقمة . كقوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ 94ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ 95 ) ( الأعراف ) وان هذا الذي ذكره النص القرآني بالنعمة بعد النقمة هو اختبار شديد ولذا روى عقبة ابن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إذا رايت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج . ثم تلا قوله تعالى:( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةفاذا هم مبلسون ) .
وروى عبادة ابن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إذا أراد الله تعالى بقوم بقاء أو نماء رزقهم فتح باب القصد والعفاف وإذا أراد بقوم اقتطاعا فتح باب الخيانة ) .
وإن هذا الفتح والرزق الواسع إلى حين ليذوقوا النعمة ثم الحرمان منها فجأة ولذا قال سبحانه:
( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ) .
انهم إذ يكونون في فرح مما أعطاهم الله تعالى أخذهم الله تعالى بالحرمان أو أصابهم بالموت المفاجئ أو الخراب الجائح في وقت لم يتوقعوه بل كانوا يتوقعون المزيد من النعم ويحسبون أنها حق مكتسب لا يمحي ( فإذا هم مبلسون ) أي في غم وكمد وحزن ويأس وحيرة بعد الفرحة .
وهنا تعبيران جليلان جديران بالالتفات .
أولهما:أنه عبر عن إعطاء الله النعمة بما أوتوا أي بالبناء للمجهول لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم . كما جاء على لسان واحد من أمثالهم وهو قارون (. . .إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ 76وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 77قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ 78 ) ( القصص ) .
الثاني:أن الله أضاف الأخذ إلى ذاته العلية إذ قال:( أخذناهم ) لأنهم لا ينكرون ذلك وينسبونه إلى ربهم .