/م40
{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} أي فلما أعرضوا عما أنذرهم ووعظهم به الرسل وتركوا الاهتداء به حتى نسوه أو جعلوه كالمنسي في عدم الاعتبار والاتعاظ به لإصرارهم على كفرهم ، وجمودهم على تقليد من قبلهم ؛ بلوناهم بالحسنات بما فتحنا عليهم من أبواب كل شيء من أنواع سعة الرزق ورخاء العيش وصحة الأجسام ، والأمن على الأنفس والأموال ، كما قال تعالى في قوم موسى:{ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [ الأعراف:168] فلم يتربوا بالنعم ، ولا شكروا المنعم ، بل أفادتهم النعم فرحا وبطرا ، كما أفادتهم الشدائد قسوة وشرا .
{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا} منها ، فسقوا عن أمر ربهم بطرا وغرورا بها{ أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( 44 )} أي أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم أو حال كونهم مبغوتين إذ فجأهم على غرة من غير سبق أمارة ولا إمهال للاستعداد أو للهرب ، فإذا هم مبلسون أي متحسرون يائسون من النجاة .أو هالكون منقطعة حججهم .
والإبلاس في اللغة اليأس والقنوط من الخير والرحمة ، والتحير والدهشة ، وانقطاع الحجة ، والسكوت من الحزن أو الخوف والغم ، واستشهدوا له بقول العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا *** قال نعم أعرفه ، وأبلسا{[915]}
ولقولهم:أبلست الناقة إذا لم ترغ من شدة الضبعة ، وهي بالتحريك شدة شهوة الفحل .يقال ضبعت الناقة ضبعا وضبعة ( من باب فرح ) .
والآية تفيد أن البأساء والضراء ، وما يقابلهما من السراء والنعماء ، مما يتربى ويتهذب به الموفقون من الناس ، وإلا كانت النعم ، أشد وبالا عليهم من النقم ، وهذا ثابت بالاختيار ، فلا خلاف في أن الشدائد مصلحة للفساد ، وأجدر الناس بالاستفادة من الحوادث المؤمن ، كما ثبت في حديث صهيب مرفوعا في صحيح مسلم « عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له .وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له »{[916]} وقد بينا وجه استفادة المؤمن من الشدائد في تفسير الآيات التي نزلت في شأن غزوة أحد من سورة آل عمران ، وهاك بعض ما رووه في ذلك من الآثار ، قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية:
قال الحسن البصري:من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له ثم قرأ:{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} الآية .قال الحسن:مكر بالقوم ورب الكعبة ، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا ، رواه ابن أبي حاتم .وقال قتادة:بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون ، رواه ابن أبي حاتم أيضا .وقال مالك عن الزهري:{ فتحنا عليهم أبواب كل شيء} قال رخاء الدنيا وسترها .
وقد قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشد بن سعد أبو الحجاج المهري عن حرملة بن عمران التجيبي بن عقبة عن مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج » ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم{ فلما نسوا ما ذكروا به} الآية{[917]} ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حرملة وابن لهيعة عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر به .وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا عراك بن خالد بن يزيد حدثني أبي عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبادة بن الصامت أن رسول الله كان يقول:« إذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}» كما قال{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} [ الأنعام:45] ورواه أحمد وغيره اه .
وسيعاد هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الأعراف( 7/93 – 98 ) وغيرها مما في معناها .
ومن مباحث اللفظ النحوية أن ( إذا ) من قوله:{ فإذا هم مبلسون} هي التي يسمونها الفجائية لإفادتها ترتب ما بعدها على ما قبلها فجأة وهي حرف عن الكوفيين ، وظرف زمان أو مكان عند البصريين ( قولان ):منصوبة بخبر المبتدأ ، فالمعنى عليه هنا أنهم أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها ، على أن الفاء وحدها تفيد التعقيب وهو ترتب ما بعدها على ما قبلها من غير فاصل ، ولكن الفرق بين « فهم مبلسون » وبين « فإذا هم مبلسون » عظيم ، لا يخفى على ذي ذوق سليم ، فذالك خبر مجرد ، وهذا تمثيل لمعنى مؤكد مجدد .