ويصح أن يقال سقين:{ دار الفاسقين} هي دار فرعون ومن سبقه من الفاسقين ، وعندي أن التخريج الأول أوضح ، ويؤكده قوله تعالى بعد ذلك:
{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} .
التكبر في الأرض بغير الحق ولا يكون التكبر بحق قط ، وهذا وصف كاشف لبيان مضرة الكبر وفساده أن التكبر يجعل المتكبر لا يفكر إلا في نفسه وما يستعلى به على الناس ، فإذا غمره كبره في هذا لا يرى إلا من ورائه ، فلا يتجه نظره إلى ما يجب عليه ، بل يتجه إلى ما يحسبه حقا له ، وبذلك ينصرف عن الخير منصرفه فيصرفه الله عنه ، وهذا قوله تعالى:{ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} ، فصرف الله تعالى للمتكبرين نتيجة حتمية لانصرافهم لغمرتهم في الكبر ، فهو سبب هذه النتيجة وقوله تعالى:{ بغير الحق} ، هو كشف لحقيقة المستكبرين من الطغاة والحكام ، وكل المفسدين في الأرض .
ولقد صور الله تعالى تكفيرهم فقال في نظرهم إلى الحق وإلى الباطل تعالت كلماته:{ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا} ؛ لأن قلوبهم صرفها هواهم عن الحق ، فصارت متدرنة بالباطل لا تستسيغ . الحق . إن كل آية ، أي آية مهما تكن واضحة الدلالة بينة الهداية{ لا يؤمنوا بها} لا يصدقون بها ، لأنهم عميت عن الحق أبصارهم ، وأصبحوا في صمم عنه ، فإن القلب إذا أعمى كره الحق ، وغفل عن آياته ، ومثل ذلك آل فرعون ، جاءتهم العصا فكفروا بها ، وجاءت يد موسى بيضاء تلمح بالنور ، فأعرضوا ، وأصابهم الله بالعذاب ، وأصاب أنفسهم وأموالهم وزروعهم ، ورأوا آيات فيهم رأى العيين ، وخضعوا بالحس لله ، ولكن ما زالت قلوبهم كافرة فاتجهوا إلى الله رب موسى وربهم ، وطلبوا إلى موسى أن يدعو الله ليكشف عنهم ، فلما كشف ذهب نور الإيمان ، وبقى ما استقر في نفوسهم بسبب الكفر .
وقال تعالى في تصوير نزوعهم إلى الباطل:{ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا} إن الرشد يحتاج إلى عزيمة وقوة نفس ، وسيطرة على الشهوات ، وحمل على الإيثار ، ومنع للأثرة ، والذين يستكبرون ويطغون فيهم أثره ، وفيهم شهوات مستحكمة ، وهو غالبن وكما قال محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم:( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) . فلهذا إذا رأى المكذبون سبيل الرشد الذي يعطى لله وللناس حقوقهم فإنهم لا يتخذونه سبيلا لسلوكهم ، وطريق حياتهم لأنه يحتاج إلى بصيرة مدركة ، وعزيمة صادقة ، وإرادة عاقلة .
{ وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} ، أي إن يروا سبيل الضلال وهو الغي يتخذوه مسلكا لهم ؛ لأنه سبيل الأثرة والهوى والشهوات والطغيان فهو يتفق مع نزعة التكذيب لآيات الله تعالى ، والغفلة عن هدايتها ، والاستكبار الذي أعماهم عن التأمل فيها ، وتعرف أسرار الله في مكنونها .
ولقد ذكر الله تعالى سبب ذلك الضلال الذي يحولهم من الرشد إلى الغي ، فقال سبحانه:{ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} .
الإشارة في{ ذلك} إلى الحال التي آلوا إليها من استحسانهم للشر وسبيله ، واستهجانهم للخير وطريقه{ بأنهم كذبوا بآياتنا} ، أي بسبب أنهم كذبوا بآيات الله ؛ سارعوا بتكذيب آيات الله ، فاجتالهم الشيطان عنها ، وساروا منحرفين عنها غافلين عن معانيها ، ومن سار في طريق منحرفا عن الخط المستقيم أو غل في الانحراف حتى يضل ضلالا بعيدا ، وكلما أمعن في السير أمعن في الضلال ، حتى لا تكون هدايته ، أخذهم الكبر فكذبوا بآيات الله{ وكانوا عنها غافلين} ، ففسدت نفوسهم وأذاقوهم حتى صاروا يذوقون المر فيحسبونه حلوا ، وفسدت مداركهم ، فصاروا لا يفرقون بين الخير والشر ، ولا بين الحسن والقبيح ، فإن رأوا سبيل الرشد لا يختاروه وإن رأوا سبيل الغي اختاروه وهكذا إيفت مشاعرهم ، وضلت أفهامهم ، وإنما يستقيم الفكر إذا استقامت النفس .