/م146
قال:
{ سأصرف عن آياتي الّذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ} هذا بيان لسنته تعالى في تكذيب البشر لدعاة الحق والخير من الرسل وورثتهم وسببه الأول التكبر فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى لأجل اتباعه فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليها الغافلين عنها ، وتلك حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه وإنما ذكرت هذه السنة العامة من أخلاق البشر بصيغة المستقبل لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطاغين المستكبرين من مشيخة قومه لن ينظروا في آيات القرآن الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة من وجوه كثيرة بيناها مرارا ، والدالة على وحدانية الله تعالى بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة ولا في غيرها مما أيده ويؤيده به من آياته الكونية لتكبرهم في الأرض بالباطل ، فوجهة نظرهم تنحصر في تفضيل أنفسهم عليه صلى الله عليه وسلم بأنهم سادة قريش وكبراؤها وأغنياؤها وأقوياؤها فلا يليق بهم أن يتبعوا من هو دنوهم سنا وقوة وثروة وعصبية ، والمعنى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق من قومك أيها الرسول ومن غيرهم في كل زمان ومكان كما صرفت فرعون وملأه عن آياتي التي آتيتها رسولي موسى .
- والتكبر صيغة تكلف أو تكثر من الكبر الذي هو غمط الحق بعدم الخضوع له واحتقار الناس ، فهو شأن من يرى أنه أكبر من أن يخضع لحق ، أو يساوي نفسه بشخص ، والأصل الغالب في التكبر أن يكون بغير الحق وقد يتصور أن يتكلف الإنسان إعلاء نفسه على غيره أو إكثاره من الاستعلاء عليه بحق كالترفع عن المبطلين وإهانة الجبارين واحتقار المحاربين .فقوله تعالى{ بغير الحق} يكون على هذا صلة للتكبر وهو قيد له ، وإلا كان بيانا للواقع .أو المعنى أنهم يتكبرون حالة كونهم متلبسين بغير الحق أي منغمسين في الباطل فأمثال هؤلاء لا قيمة للحق في نفسه عندهم فهم لا يبطلونه ولا يبحثون عنه وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون ، كما قال تعالى في آل فرعون:{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا} [ النمل:14] وقال في طغاة قريش{ فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون} [ الأنعام:33] .
{ وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها} هذا إما عطف على جملة ( سأصرف ...) أي سأصرفهم عن آياتي المنزلة والكونية فينصرفون وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها- وأما عطف على ( يتكبرون ) فيكون هو وما بعده بيانا لصفات المتكبرين وأحوالهم وأولها أنهم إن يروا كل آية من الآيات التي تدل على الحق وتثبت وجوده لا يؤمنوا بها فإن كثرة الآيات بتعدد أنواعها وأفرادها إنما تفيد من كان طالبا للحق ولكنه جاهل أو شاك أو سيء الفهم فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره ، وفي هذا إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه إنما يقصدون التعجيز ، لا استبانة الحق بالدليل ، فهم إن أجيبوا إلى طلبهم لا يؤمنون ، ولهذا نظائر تقدم بعضها في سورة الأنعام مفصلا تفصيلا .
{ وإن يروا سبيل الرّشد لا يتّخذوه سبيلا} الرشد الصلاح والاستقامة وضده الغي وهو الفساد ، وفيه ثلاث لغات:ضم أوله وسكون ثانيه وبه قرأ الجمهور هنا- وفتحهما وبها قرأ حمزة والكسائي- والرشاد وقد وردت في سورة المؤمن حكاية عن فرعون{ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [ غافر:29] ومثلها السقم والسقم والسقام –والمعنى أن من صفة هؤلاء الذين مرنوا على الضلال واستمرؤوا مرعى الغي والفساد ، أن ينفروا من الهدى والرشاد ، فإن رأى أحدهم سبيله واضحة جلية لا يختار لنفسه جعلها سبيلا له بإيثارها وتفضيلها على ما هو عليه ، وما كل أحد يصل إلى هذه الدرجة من الغي لأن من الناس من يسلك سبيل الغي على جهل فإذا علم بما تنتهي به إليه من الفساد ورأى لنفسه مخرجا منها تركها ، واختار سبيل الرشد عليها .
{ وإن يروا سبيل الغيّ يتّخذوه سبيلا} وهذه الحالة شر مما قبلها فإن هذه إيجابية وتلك سلبية ، وبينهما حال أخرى وهي حال من ليس فيه من نور البصيرة وذكاء النفس ما يحمله على سلوك سبيل الرشد إذا رآه لضعف همته ، ولكنه يكره الغي والفساد إذ لم يصل من اعتلال الفطرة وظلمة البصيرة إلى تفضيله على الرشد وإيثار سبيله واختيارها لنفسه إذا رآها بحيث لا يصرفه عن الفساد إلا جهل سبيله أو العجز عن سلوكها .
فمن اجتمعت له هذه الأحوال أو الصفات فهو الذي أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فلم تبق له سبيل من أسباب الحق والرشد يسلكها ، وقد علل ذلك سبحانه بقوله:{ ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} يعني أن الله تعالى لم يخلقهم مطبوعين على شيء مما ذكر طبعا ، ولم يجبرهم ويكرههم عليه إكراها ، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم للتكذيب بآياته الدالة على الحق ، والصدود عن سبيله الموصلة إلى الرشد ، وكانوا غافلين دون أهوائهم لا يعطونها حقها من النظر والتأمل والتفكر والتدبر ، لاشتغالهم عن ذلك بأهوائهم ، وعصبيتهم لأنفسهم ولآبائهم ، وبذلك قطعوا على أنفسهم طريق الهدى ، فالغفلة هنا هي الغفلة المطبوعة المانعة من أسباب العلم والفطنة ، لا أي نوع من أنواع الغفلة ، بل هي المبينة في قوله تعالى من أواخر هذه السورة{ ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون} [ الأعراف:179] .
الضالون من هؤلاء الغافلين عن آيات الله تعالى وما تهدي إليه من معرفته والاستعداد للحياة الأخرى الباقية هم الذين يقول الله تعالى في وصفهم{ أولئك في ضلال بعيد} [ إبراهيم:3] ويقول:{ قد ضلوا ضلالا بعيدا} [ النساء:167] إذ كان لهم من الانهماك فيما هم فيه والغرور به واحتقار ما سواه ما يصدهم عن توجيه عقولهم إلى غيره ، ومنهم متفرنجة المسلمين الجغرافيين في هذا العصر يحتقرون هداية الدين الروحية وما لها من التأثير العظيم في تهذيب النفس وحملها على الخير وصدها عن الشرور من الفواحش والمنكرات ، وإنما غرهم وأضلهم أنهم في عصر وصل فيه الغربيون إلى غاية بعيدة من الفنون والصناعات ، كأنهم يرون أن من عاش في هذا العصر يجب أن يكون مثلهم عبدا لشهواته ، ومقتضى ذلك أنه كان الأفضل لبني إسرائيل أن لا يتبعوا موسى عليه السلام لأنه لم يكن عنده من زينة الدنيا وقوتها وصناعاتها وفنونها ما كان عند فرعون وقومه ،{ فاعتبروا يا أولي الأبصار} [ الحشر:2] .