وإن الله تعالى وصاهم ، ودعاهم إلى الهدى ، وشرع لهم ما يصقل نفوسهم ويهدي قلوبهم ولكن كتبت عليهم الشقوة فلم يهتدوا ، ولقد شعرت بذلك أمة منهم ، فقال – سبحانه وتعالى – عنها:{ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} .
{ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} .
الأمة هي الجماعة المؤتلفة التي تجمعها فكرة واحدة وشعور متحد ، بحيث يوائم كل واحد فيها من معه ، و ( إذ ) ظرف زمان ماض ، والمعنى اذكر يا محمد ذلك الوقت الذي هم فيه بلغ اليأس من اهتدى منهم حتى قالت منهم جماعة مهدية يائسة من إيمانهم ، منكرة وعظ من يعظهم:{ لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} ، والوعظ بيان الحق مقارنا بمغبة الباطل ذاكرا ما ترتب على الباطل من أذى لأهله ، وهلاك لمن استمسكوا بالباطل استمساكا وتركوا الحق وانحرفوا عنه ، والعاقل من اتعظ والجاهل من يأبه ولا يتعظ . يستفهم هؤلاء المهديون مستنكرين ، أو متعرفين الغاية ؛ لم تعظون قوما قد تضافروا على الشر ، وتقرر هلاكهم وهم على ضلالهم ، وبعد هذا الهلاك يعذبهم عذابا شديدا ، ما الباعث على ذلك ؛ فيجيبهم فريق ممن اهتدوا وهم الواعظون:{ قالوا معذرة إلى ربكم} ، أي يجب علينا أن نعظ لنعتذر إلى ربنا بأننا قمنا بحق بيان الهدى والنور ، وليكون استحقاقهم الهلاك على الضلال بعد بينة أقيمت وحق أعلن ، ونقدم هذه المعذرة إلى ربنا عن ضلالهم .
وهذا كله على أساس أن المستفهمين مهديون وهو الأنسب لمعنى الآية ، وفرض بعضهم أن المستفهمين هم الذين وقعوا في الضلالة ، وكأنهم يقولون إنكم تحسبون أننا هالكون ومعذبون ، ونحن مصرون ، فاتركونا بضلالنا ، حتى نلقى جزاءنا بزعمكم ، ويكون الاستفهام لإنكار الواقع ، وتوبيخ الواعظين على وعظهم .
وإن ذلك تحتمله الآية الكريمة ، ولكنا نميل إلى الأول ، وقد قسم القرطبي في تفسيره اليهود إلى ثلاثة أقسام:ونسب التقسيم إلى جهود المفسرين ، فقال:( قال جمهور المفسرين:إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق ، وهو الظاهر من الضمائر في الآية ؛ فرقة عصت وصادت ( أي يوم السبت ) . وفرقة نهت واعتزلت ، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وأن هذه الطائفة قالت للناهية:لم تعظون قوما – تريد العاصية – الله مهلكهم ، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ) .
وإن هذا تقسيم حسن ، وإن الذين اعتزلوا ، ولم ينهوا ، وإن اهتدوا وأطاعوا ، فالتناهي عن المنكر مطلوب من الذين اهتدوا . ولقد قال تعالى:
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 78 ) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( 79 )} ( المائدة ) .
وإن المعذرة التي قام بها الناهون يعرفونها إلى ربهم تقربا إليه بقول الحق والدعوة إليه ، والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورجاء أن يتقوا أو يخافوا العذاب ، ويتوبوا إلى الله ، ويقلعوا عن الذنوب التي وقعوا فيها ؛ ولذا قال تعالى عنهم:{ ولعلهم يتقون} ويكون الرجاء من هؤلاء ، على حقيقة الرجاء ؛ لأنه من المكلفين في شأن مكلفين .
وإن ذكر الذين لاموا الناهين ، وإجابة هؤلاء فيها دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستمرار على دعوته ومداومته موعظته ، ولو كان المشركون يعاندون ، ويصرون على شركهم{. . . . . . . . . إنما أنت منذر ( 7 )} ( الرعد ) ، فعليه أن يستمر على دعوته ، ولو كانت حال موئس من الاستجابة فإن الله تعالى قد يغير من حال إلى حال .