{مَعْذِرَةً}: عذراً .
اختلاف المؤمنين من بني إسرائيل في الموقف من المتمردين منهم
وتعاظم التمرّد على الله في وسط بني إسرائيل ،واختلف المؤمنون الطائعون لله في تحديد الموقف من أولئك المتمردين ،وفي طريقة مواجهتهم ،فكان بينهم اليائسون الذين يرون عدم الجدوى في أساليب الوعظ والإرشاد ،لأن القوم قد تجاوزوا الحدود الطبيعية في الفسق والعصيان ،وقطعوا شوطاً بعيداً في هذا الاتجاه ،وأغلقوا آذانهم وقلوبهم عن أيّة كلمةٍ هاديةٍ ناصحةٍ ،وكان بينهم الرساليون الذين يشعرون بأن الدعوة يجب أن تحرَّك في كل أفق ،لتشرق فيه مهما كانت أوضاع الظلام في أجوائه ،وأن الكلمة الواعظة الناصحة يجب أن تقال لكل إنسان ،لتبعث فيه الإيمان والصلاح ،مهما كانت قوة عناصر الفساد والضلال في داخله ،لأن هناك جانباً من الخير يتحرك دائماً في قلب الإنسان إلى جانب العوامل الأخرى ،فلا بد لنا أن نرعاه ونقويه ،ونستفيد من كل فرصةٍ ممكنةٍ في إيقاظه وتنميته ،من أجل إفساح المجال له لدفع الإنسان إلى الاتجاه الصحيح .ولا مجال لليأس في حركة الرسالة في الحياة ،لأن عملية النمو والتحرك ،لا تواجه الساحات الخالية من التعقيد ،بل تواجه الساحات المعقّدة التي تتشابك فيها المشاكل وتتعقد فيها الأوضاع ،وتتمرّد فيها الأفكار ،لتفتح طريقاً هنا ،ونافذةً هناك ،وتثير في موقعٍ آخر كثيراً من التساؤلات التي تفتح في حركة الوجدان بعض الانفتاح على الحقيقة ،من خلال ما تحدثه من الاهتزاز الداخلي في الإنسان ،وربما كان السرّ في ذلك أنّ الإنسان ليس كياناً جامداً لتتجمّد فيه المواقف ،أو تتحجّر لديه الأفكار ،بل هو كائنٌ متحركٌ قابل للتأثر بعوامل التغيير التي قد تنفذ إلى تفكيره أو أحاسيسه ،وتوحي له بضرورة استبدال اتجاه حركته باتجاه آخر ..وهكذا ينبغي للعاملين أن يرصدوا الحالات الفكريّة والشرعيّة والاجتماعيّة للانطلاق منها إلى آفاق جديدة في حركة الرسالة في الحياة الإنسانية .
الإصرار على الإصلاح معذرة إلى الله
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} لأمة أخرى كانت تقوم بمهمة الوعظ والإرشاد للمتمردين العاصين{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا} ،لأنهم تجاوزوا كل الحدود المعقولة في ضلالهم وعصيانهم ،مما يجعل من الوعظ شيئاً عقيماً لا جدوى منه ؟!فقد ساهمت تصرفاتهم في غضب الله عليهم بالمستوى الذي لا مجال فيه إلا لهلاكهم وتعذيبهم عذاباً شديداً .
{قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} ،لنعذر إلى الله بأننا قد قمنا بواجبنا في تجربة الدعوة إليه ،وفي الإعلان عن رفضنا لهذا الخط المنحرف بطريقة إيجابيّة في سبيل التغيير ...وربما كان في كلمة «ربكم » بدلاً من كلمة «ربنا » بعض الإيحاء لهؤلاء المعترضين بأن المسألة ليست مسألتنا ،فلا بد لكم أن تقدموا العذر إلى ربكم في الموقف ،كما يجب أن نقدمه إليه في أسلوبنا العملي ،لأنه ربنا وربكم .
{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فإذا كان هناك احتمالٌ واحدٌ للوصول إلى نتيجةٍ إيجابيةٍ في خط التقوى لديهم ،فيجب أن يُلاحَقَ في تجربةٍ عمليةٍ واعيةٍ ،لأن من الممكن أن تنجح التجربة الأخيرة في ما لم تنجح فيه التجارب السابقة ،مما لا يجعل مجالاً لليأس ...ثم ما معنى أن يفكر الدعاة إلى الله في الانسحاب من الساحة أمام عوامل اليأس ،في الوقت الذي تفرض عليهم فيه الدعوة محاربة كل هذه العوامل السلبيّة ،ومواجهتها بصبرٍ وثبات ،ليفتحوا في داخلها عناصر الأمل .