مقدمات يوم الفرقان
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ( 5 ) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( 6 ) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( 7 ) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 8 )
الآيات بعضها متصل ببعض ، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في النسق والبيان والموضوع ، إذ كلها في مقدمات غزوة بدر ، والسير النفسي حتى تصل إلى نهايتها ، وقوله تعالى:
{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} .
ما وضع ( كما ) في التشبيه ، ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عدة تفسيرات كلها تحتملها الآية ، فذكر أنها باختلافهم في الأنفال ، وان الله تعالى انتزعها من أيديهم على رغبتهم فيها كذلك{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} بالأمر الثابت{ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} ، يقول الطبري في توضيح هذا المعنى:( ومعنى هذا أن الله تعالى يقول:كما أنكم لما اختلفتم في المغانم ، وتشاححتم فيها ، فانتزعها الله تعالى منكم وجعلها إلى قسمة ، وقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمها على العدل فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى العداء من قتال ذات الشوكة ، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم ، وإحراز عيرهم فكان عاقبة كراهتهم للقتال بأن قدره الله لكم ، وجمع به بينكم ، وبين عدوكم على غير ميعاد رشدا وهدى ونصرا وفتحا ، كما قال تعالى:{ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون ( 216 )} ( البقرة ) .
وخلاصة المعنى أن الله يختبركم كما اختبركم في الغنائم ، فقد أخذها منكم وتولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسمتها بالعدل والمصلحة ، كذلك اختبركم ، فأخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذات الشوكة والمصلحة{ وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} .
ونرى أن هذا التخريج مؤداه أن الله اختبركم بمنع نفوسكم من المشاقة في المال ترويضا على الصبر على هوى النفس ، وقمعها عن شهواتها استعدادا للقتال كذلك اختبركم بحمل أنفسكم على ما تكره ابتلاء بالصبر على المكاره ، كما اختبركم بالصبر على رد هوى النفس ، فكلاهما لابد منه للجهاد .
ويذكر ابن جرير وجها آخر ، فيقول:( قال آخرون معنى ذلك:كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك هم الكارهون للقتال ، فهم يجادلونك فيه من بعد ما تبين لهم أنه الحق ) .
ومؤدى هذا أنهم وجد فيهم حال تردد أو على الأقل كراهية للقتال مرتين:مرة عندما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهو الأمر الثابت الذي قامت الدواعي إليه وكان ذلك للعير ، ومرة أخرى عندما تعين القتال ، وصار الأمر للنفير لا للعير ، وإني أميل إلى التخريج الثاني لأنه يساوق اللفظ ولا يحتاج إلى تأويل ، ولا تأباه الألفاظ ، ومؤداه أنه كما وجد فريق من المؤمنين كاره للخروج من بيتك لتتبع العير ، وجدت كراهية القتال عند إرادة الحرب ، ويكون قوله تعالى:{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} متعلقا بقوله تعالى:{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} .
ونقف هنا عند أمرين:أولهما – أن الله تعالى ذكر الحق بالحق مرتين:
أولاهما –{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} أتى بالأمر الثابت الذي هو الحق في ذاته ، والحق في رفع شأن الدين ، والحق في مصلحة المؤمنين ، والحق في أنه أمر الله تعالى وإرادته ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أراده من ذات نفسه ، وإنما أراده الله تعالى له ، وهو ربه الذي خلقه ورباه وهو أعلم بمصالحه ومصالح المؤمنين والإسلام ، وإعزازه تعالى كلمة الحق ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا .
ثانيهما – عندما ذكر الجدال في قوله تعالى:{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} .