قال الإمام أبو جعفر الطبري:اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه "الكاف "في قوله:( كما أخرجك ربك ) فقال بعضهم:شبه به في الصلاح للمؤمنين ، اتقاؤهم ربهم ، وإصلاحهم ذات بينهم ، وطاعتهم الله ورسوله .
ثم روى عن عكرمة نحو هذا .
ومعنى هذا أن الله تعالى يقول:كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم ، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقسمها على العدل والتسوية ، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة - وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم ، وإحراز عيرهم - فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم ، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد - رشدا وهدى ، ونصرا وفتحا ، كما قال تعالى:( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ البقرة:216] .
قال ابن جرير:وقال آخرون:معنى ذلك:( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك هم كارهون للقتال ، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم ، ثم روى نحوه عن مجاهد أنه قال:( كما أخرجك ربك ) قال:كذلك يجادلونك في الحق .
وقال السدي:أنزل الله في خروجه إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال:( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ) لطلب المشركين ( يجادلونك في الحق بعدما تبين )
وقال بعضهم:يسألونك عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك يوم بدر فقالوا:أخرجتنا للعير ، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له .
قلت:رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان ، التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام ، فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من خف منهم ، فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر ، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبه ، فبعث ضمضم بن عمرو نذيرا إلى مكة ، فنهضوا في قريب من ألف مقنع ، ما بين التسعمائة إلى الألف ، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا ، وجاء النفير فوردوا ماء بدر ، وجمع الله المسلمين والكافرين على غير ميعاد ، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم ، والتفرقة بين الحق والباطل ، كما سيأتي بيانه .
والغرض:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه خروج النفير ، أوحى الله إليه يعده إحدى الطائفتين:إما العير وإما النفير ، ورغب كثير من المسلمين إلى العير ؛ لأنه كسب بلا قتال ، كما قال تعالى:( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين )
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره:حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالمدينة:إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنمناها ؟ فقلنا:نعم ، فخرج وخرجنا ، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا:ما ترون في قتال القوم ؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ فقلنا:لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ، ثم قال:ما ترون في قتال القوم ؟ فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو:إذا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى:( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) [ المائدة:24] قال:فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ، قال:فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -:( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ) وذكر تمام الحديث .
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن لهيعة ، بنحوه .
ورواه ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي ، عن أبيه ، عن جده قال:خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر ، حتى إذا كان بالروحاء ، خطب الناس فقال:كيف ترون ؟ فقال أبو بكر:يا رسول الله ، بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا . قال:ثم خطب الناس فقال:كيف ترون ؟ فقال عمر مثل قول أبي بكر . ثم خطب الناس فقال:كيف ترون ؟ فقال سعد بن معاذ:يا رسول الله إيانا تريد ؟ فوالذي أكرمك [ بالحق] وأنزل عليك الكتاب ، ما سلكتها قط ولا لي بها علم ، ولئن سرت [ بنا] حتى تأتي "برك الغماد "من ذي يمن لنسيرن معك ، ولا نكون كالذين قالوا لموسى ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر ، وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك ، فامض له ، فصل حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد:( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ) الآيات .
وقال العوفي ، عن ابن عباس:لما شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - في لقاء العدو ، وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر ، أمر الناس فعبئوا للقتال ، وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله:( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون )