{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإن فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ( 5 ) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كأنمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( 6 ) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أنهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أن غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( 7 ) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 8 )}
لمفردات:
كما أخرجك ربك من بيتك: أي: أخرجك من بيتك بالمدينة إلى بدر .
بالحق: أي: بالحكمة والصواب .
التفسير:
5 –{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَأن فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} .
تتحدث هذه الآية مع آيات تالية عن خروج المسلمين إلى غزوة بدر الكبرى .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن تجارة قريش في طريق عودتها من الشام ،وستمر قريبا من المدينة فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: هذه عير قريش اخرجوا إليها علّ الله أن ينفلكموها ،فخف بعض الناس للخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم ،وتثاقل بعضهم لعلمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يلقى حربا ،فالتجارة يحيط بها حراس قليلون ،وخرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا معهم فرسان فقط ،وسبعون بعيرا يتعاقبون عليها ،وبلغ أهل مكة خبر خروجهم ،فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة ،النجاء النجاء على كل صعب وذلول ،عيركم أموالكم أن أصابها محمد ؛لم تفلحوا بعدها أبدا ،فخرج أبو جهل يجمع أهل مكة ،فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة فقال: واللات والعزّى لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزر ونشرب الخمر ونقيم القينات والمعازف ببدر ،فيتسامع جميع العرب بخروجنا ،وإن محمدا لم يصب العير ،وإنا قد أخفناه فمضى بهم إلى بدر ،وهي قرية في الطريق بين مكة والمدينة على مقربة من المدينة ،فنزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد ؛إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير ،وإما النفير – أي مشركي مكة – فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: ما تقولون ؟إن القوم قد خرجوا من مكة ،فالعير أحب إليكم أم النفير ...؟فقالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو ،فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم رد عليه فقال:"إن العير قد مضت على ساحل البحر ،وهذا نفير قريش قد أقبل "،فقالوا يا رسول الله ،عليك بالعير ودع العدو ،فقام أبو بكر فقال وأحسن ،وتكلم عمر فقال وأحسن ،ثم قام المقدار ابن عمرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ،امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت ،لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا أنا ها هنا قاعدون .ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ...فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ؛لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ،فقال له صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له .ثم قال:"أشيروا علي أيها الناس "viii – وهو يريد الأنصار – فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله .قال: أجل ،قال: آمنا بك ،وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ،وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة .
فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ،فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ،ما تخلف منا رجل واحد ،وما نكره أن تلقى بنا عدونا ،وأن لصبر عند الحرب ،صدق عند اللقاء ،ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ،فسر بنا على بركة الله ،ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وسره قول سعد ابن معاذ ثم قال:"سيروا ،وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ،والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم "ثم دارت رحى المعركة وانتصر المؤمنون ،وهزم المشركون .
{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} .
هنا تشبيه بين حالين ،حال المسلمين في مواجهة العدو ،بعد أن دارت رءوسهم واضطربت قلوبهم ،وحالهم في الغنائم بعد أن اختلفت آراؤهم فيها ،واضطربت مشاعرهم حيالها ،وانظر كيف أمسكت كلمات الله بكل خالج كانت تختلج في نفوس القوم هنا وهناك في مواجهو العدو ،ثم في مواجهة الغنائم .
قال المبرد في معنى الآية:
الأنفال ثابتة لله ورسوله وإن كرهوا ،كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا .
وقال غيره: امض لحكم ربك في الغنائم وإن كرهوا ،كما مضيت لأمر ربك في الخروج من البيت لطلب العير وأن كرهوا .
وذكر د .محمد سيد طنطاوي: أن معنى الآية:
حال بعض أهل بدر في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية ،مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال مع ما في هذه القسمة والقتال من خير ،وبركة .
والملاحظ أن الله تعالى أضاف خروج النبي من بيته إليه سبحانه أي: أن الخروج إلى بدر كان بأمر الله وتوجيهه ،حتى يخرج المسلمون خفافا للقاء العير ،ثم تفلت العير ،ويقف المسلمون وجها لوجه أمام النفير ،وهو حرب المشركين ،وقد كانوا يكرهون ذلك في أول الأمر ؛لأنهم خرجوا للعير ،وأراد الله أن تفلت العير ،حتى تتم المواجهة ويتم الاستعداد للحرب ،ويتم إخلاص النية ،والامتثال لأمر الله .
وتلحظ أن الخروج بالحق أي: أخرجك الله إخراجا متلبسا بالحق ،الذي لا يحوم حوله باطل ،والبيت الذي خرج منه النبي صلى الله عليه وسلم هو بيته في المدينة ،أو هي المدينة كلها ،فقد تحولت من يثرب إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ،بعد أن نظمها وخططها وأتم إعمارها ،وأشاع فها الأمن والنظام وصارت المدينة دار الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها "ix .
قال الشوكاني:
يذكر الله في هذه الآية وما بعدها: أن الفضل في النصر في غزوة بدر إنما هو لله تعالى ،ولذا فالغنائم له ولرسوله ،ومن ذلك أنه أخرجهم من المدينة لحرب المشركين ،وأكثرهم كارهون ،وصرفهم إلى قتال جيش الكفار وكان أكثرهم لا يريدون ،وأمدهم بالملائكة إلى غير ذلك مما توضحه السورة .
وقال الآلوسي: وقوله: و{إن فريقا من المؤمنين لكارهون} .أي: للخروج ،إما لعدم الاستعداد ،أو الميل للغنيمة ،أو للنفرة الطبيعية عنه ،وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار ،فلا يرد أنه لا يليق بمصب الصحابة ،والجملة في موضع الحال ،وهي حال مقدرة ؛لأن الكراهة وقعت بعد الخروج ...